مثقال الخردلة من الإيمان هي مثال للإيمان الخالص الذي لا يشوبه مثقال خردلة من شرك، وهو الذي يعتد به في النجاة، والقول بأن مثقال حبة من خردل من إيمان مشوب بالشرك ينجي صاحبه من النار لم يقل بهذا أحد من المسلمين بل أجمعوا على أن الشرك بالله لا يغفر منه شيء .
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله- :
قال الله تعالى:[ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ]( النساء : 48 ) .
وقال تعالى:[ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ]( المائدة : 72 ) .
وقال تعالى في سياق محاجّة إبراهيم لقومه في التوحيد والشرك [ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ](الأنعام : 82 ) .
وقد فسر النبي ﷺ الظلم هنا بالشرك ، وهو نكرة في سياق النفي يفيد أن الأمن من العذاب المقيم الذي أعده الله للمشركين خاص بمن آمنوا إيمانًا لا يشوبه شيء ما من الشرك ، وإن كان مثقال حبة من خردل .
فعلم أنه لا مندوحة عن حمل حديث البخاري على ما يتفق مع هذه الآيات ، وأن يراد بمثقال الخردلة من الإيمان فيه المثال للإيمان الخالص الذي لا يشوبه مثقال خردلة من شرك ، وهو الذي يعتد به في النجاة وإن لم يترتب عليه ما يترتب على الإيمان الكامل من الآثار العملية والنفسية لأسباب منعت من ذلك ، كأن يموت المرء عقب اهتدائه إلى التوحيد الصحيح فلم يتم في قلبه ، ولم يترعرع إلى أن يكمل وتصدر عنه آثاره .
فإن لم يكن هذا هو المراد بالحديث كان معارضًا لهذه الآيات ، ولا يمكن ترجيحه عليها أو إرجاعها إليه والقول بأن مثقال حبة من خردل من إيمان مشوب بالشرك ينجي صاحبه من النار بعد دخولها ويجعله من أهل الجنة ، ولم يقل بهذا أحد من المسلمين بل أجمعوا على أن الشرك بالله لا يغفر منه شيء ، ومن تلوثوا به من المسلمين جنسيةً لا يسمونه شركًا بل يسمونه اسمًا آخر ، إلا من لم يبالِ بلقب الإسلام.
ثم إنه لا يمكن جعل ذلك خاصًّا بأمة من الأمم ، ولا شك أنه يصدق على مشركي العرب في زمن البعثة أنه كان في قلوبهم إيمان كحبة الخردل أو أعظم ، وإنما المراد بحبة الخردل منتهى القلة ؛ فإن القرآن شهد لهم بأنهم يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق ، وفيهم نزل [ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ]( يوسف : 106 ) ولم تنزل هذه الآية وغيرها في المسلمين الذين يشركون كشركهم ، فلو كان الإيمان بوجود الله مع اتخاذ شركاء بذلك المعنى منجيًا لكان مشركو العرب في الجاهلية ناجين حتمًا .
أما حقيقة الشرك الذي لا يغفره الله تعالى، والذي حرم الله على صاحبه الجنة فهو مبيَّن في القرآن في مواضع كثيرة جدًّا، وينقسم إلى شرك في الألوهية بعبادة غير الله تعالى، ومخ العبادة وجوهرها الدعاء أي طلب الخير ودفع الشر في الدنيا والآخرة، وشرك في الربوبية باتخاذ بعض الناس شارعين يحلون لهم ويحرمون عليهم ويشرعون لهم ما لم يأذن به الله فيتبعونهم، والمعطِّل المنكر لوجود الله تعالى لا يسمى مشركًا ، ولكنه شر من المشرك ، فإذا كان الله لا يغفر لمن يؤمن بأنه الحق الخالق الرازق إذا توجه إلى غيره معه ودعاه من دونه ، ولو ليقربه إليه زلفى ، فهل يغفر لمن جحده مطلقًا ؟
أما من يتوهم أن عند الله فرقًا بين المشركين باختلاف من أشركوهم معه في الدعاء أو غيره من خصائص الألوهية والربوبية فهو جاهل أحمق؛ إذ العبرة بحقيقة الشرك لا بأصناف الشركاء، فلا فرق بين من أشرك به ملكًا أو نبيًّا، ومن أشرك به كوكبًا أو حجرًا أو شيطانًا، وفي مشركي المسلمين من أشركوا بالله بعض آل بيت نبيه بالعبادة والدعاء ، ومنهم من أشركهم بالتشريع أيضا كأصناف الباطنية، ومن هؤلاء من انسلخ من اسم الإسلام كما انسلخ من معناه ، ومنهم من أشرك من دون آل البيت حتى النبات والجماد على نحو ما كان عليه مشركو الجاهلية وغيرهم .
فأما المحافظون على اسم الإسلام وشرائعه الظاهرة فما نزغ به الشيطان بينهم جهل يسهل على العلماء إرجاعهم عنه إذا بينوا لهم التوحيد الخالص من غير تأويل ، وأما من ليسوا كذلك فقد صاروا أبعد عن الإسلام من كثير من الوثنيين الخُلَّص ، وكل ذلك معروف .