الصدقة لا تخرج عن ملك صاحبها إلا إذا قبضها المتصدق عليه، وأما قبل ذلك فلا، ودليل هذا أن سيدنا سعد بن أبي وقاص قال (يا رسول الله , إن من توبتي : أن أنخلع من مالي , صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) فسيدنا سعد هنا نوى ، وعزم ، بل وتكلم إلا أن ذلك لم يخرج ماله عن ملكه فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم ذلك.

ومع تقريرنا جواز الرجوع إلا أننا نذكر باستحباب إمضاء الصدقة ، وبأن ما يتصدق به الإنسان خير له في آخرته.
وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار قالت امرأة منهن: ما لنا أكثر أهل النار؟ قال: “تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن” قالت: ما ناقصات العقل والدين؟ قال: شهادة امرأتين بشهادة رجل، وتمكث الأيام لا تصلي)

يقول العلامة ابن دقيق العيد في شرحه للحديث السابق:-

استدل بعض المالكية بهذا الحديث على أن من نذر التصدق بكل ماله : اكتفى منه بالثلث . وهو ضعيف ; لأن اللفظ الذي أتى به كعب بن مالك ليس بتنجيز صدقة , حتى يقع في محل الخلاف وإنما هو لفظ عن نية قصد فعل متعلقها ولم يقع بعد , فأشار عليه السلام بأن لا يفعل ذلك , وأن يمسك بعض ماله وذلك قبل إيقاع ما عزم عليه هذا ظاهر اللفظ، أو هو محتمل له , وكيفما كان : فتضعف منه الدلالة على مسألة الخلاف , وهو تنجيز الصدقة بكل المال نذرا مطلقا , أو معلقا .انتهى.

ويقول العلامة النووي الشافعي:-

من دفع إلى وكيله أو ولده أو غلامه أو غيرهم شيئا يعطيه لسائل أو غيره صدقة تطوع , لم يزل ملكه عنه حتى يقبضه المبعوث إليه , فإن لم يتفق دفعه إلى ذلك المعين استحب له ألا يعود فيه , بل يتصدق به على غيره , فإن استرده وتصرف فيه جاز ; لأنه باق على ملكه .انتهى.

ويقول ابن قدامة الحنبلي في المغني:-

المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة إلا بالقبض . وهو قول أكثر الفقهاء منهم ; النخعي والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة والشافعي.

وقال مالك , وأبو ثور : يلزم ذلك بمجرد العقد ; لعموم قوله عليه السلام : { العائد في هبته , كالعائد في قيئه } . ولأنه إزالة ملك بغير عوض , فلزم بمجرد العقد , كالوقف والعتق، وربما قالوا : تبرع , فلا يعتبر فيه القبض , كالوصية والوقف . ولأنه عقد لازم ينقل الملك , فلم يقف لزومه على القبض كالبيع .

ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف , فروى عروة ، عن عائشة – رضي الله عنها – أن أبا بكر رضي الله عنه , نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية فلما مرض , قال : يا بنية , ما أحد أحب إلي غنى بعدي منك , ولا أحد أعز علي فقرا منك وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا , ووددت أنك حزته أو قبضته , وهو اليوم مال الوارث أخواك وأختاك , فاقتسموا على كتاب الله عز وجل .
وروى ابن عيينة , عن الزهري , عن عروة , عن عبد الرحمن بن عبد القاري أن عمر بن الخطاب , قال : ما بال أقوام ينحلون أولادهم , فإذا مات أحدهم , قال : مالي وفي يدي . وإذا مات هو , قال : كنت نحلته ولدي ؟ لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد , فإن مات ورثه وروى عثمان أن الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغارا.

قال المروذي : اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي , أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة . ولأنها هبة غير مقبوضة , فلم تلزم , كما لو مات قبل أن يقبض , فإن مالكا يقول : لا يلزم الورثة التسليم , والخبر محمول على المقبوض , ولا يصح القياس على الوقف والوصية والعتق . لأن الوقف إخراج ملك إلى الله تعالى , فخالف التمليكات , والوصية تلزم في حق الوارث , والعتق إسقاط حق وليس بتمليك , ولأن الوقف والعتق لا يكون في محل النزاع في المكيل والموزون .