إن إلزام المسلمين باتباع مذهب فقهي دعوى من نسج الخيال ويردها واقع المسلمين الذين عاشوا في العصور الثلاثة التي شهد لها الرسول ﷺ بالخيرية ، وهي دعوى لا يوجد دليل شرعي على صحتها ، وما هي إلا إلزام للناس بما لم يلزمهم به الإسلام .
يقول فضيلة الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة – أستاذ الفقه وأصوله – جامعة القدس – فلسطين :ـ
إن المسلم غير ملزم باتباع مذهب فقهي كالمذهب الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي ، لأننا نعلم أن هذه المذاهب حدثت بعد عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم ، وما لا يكون ديناً في عهد رسول الله ﷺ والصحابة والتابعين وتابعيهم لا يكون ديناً للناس بعد ذلك .
ولأننا نعلم أن أكثر الناس من العوام ، والعوام لا مذهب لهم وإنما مذهبهم هو مذهب من يفتيهم ، يقول الله تعالى :( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) .
ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم أعلام الموقعين ما نصه :
لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره ، وقد انطوت القرون الفاضلة على غير ذلك ، بل لا يصلح للعامي مذهب ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظرٍ واستدلال ، ويكون بصيرأً بالمذاهب على حسبه ، أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله .
وأما من لم يتأهل لذلك البتة بل قال أنا شافعي أو حنبلي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول كما لو قال : أنا فقيهٌ أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله فهل يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من كل معنى ؟
إن العامي لا يتصور أن يصح له مذهب ، ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره ، ولا يلزم أحد قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره ،وهذه بدعةٌ حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام ، وهم أعلى رتبة وأجل قدراً وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك ،وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة . أعلام الموقعين 4/ 262 .
ويضاف إلى ما قاله ابن القيم أن الأئمة الأربعة وغيرهم قد حذروا الناس من اتباعهم في كل ما قالوا وفي كل ما ذهبوا إليه .
ونقول هذا الذي يزعم أن على المسلم اتباع مذهب فقهيٍ أنه ملزم بأخذ أقوال ذلك المذهب وعدم الخروج عنها بأن هذا زعم باطل ترده أقوال الأئمة أصحاب المذاهب المعروفة ، وهذه بعضها :
1. قال الإمام أبو حنيفة مخاطباً صاحبه أبا يوسف:[ ويحك يا يعقوب لا تكتب كل ما تسمع مني فإني أرى الرأي اليوم وأتركه غداً ، وأرى الرأي غداً وأتركه بعد غد ] .
2. قال الإمـام مالك :[ ليس أحـد بعد النبي ﷺ إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ﷺ ] .
3. وقال الإمام الشافعي :[ أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسوله ﷺ لم يحل له أن يدعها لقول أحد ] .
وإن مما يدل على فساد القول بإلزام المسلم بإتباع مذهب فقهي معين أن اتباع المذهب ليس أمراً هيناً ولا يتيسر لكل أحد من الناس ، بل يحتاج إلى فقه وعلم في أصول ذلك المذهب حتى يعرف الأسس والقواعد التي بني عليها المذهب .
يقول أبو حنيفة رحمه الله : ( لا يحل لأحدٍ أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه ) وفي روايةٍ أخرى عنه ( حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ) .
وبعد هذا القول الفصل من أبي حنيفة هل يستطيع عوام الناس الذين يزعمون أنهم على مذهب أبي حنيفة مثلاً أن يعرفوا لِمَ قال أبو حنيفة أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء أو لِمَ يرى أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام وغير ذلك من المسائل الفقهية .