سيدنا يونس ـ عليه السلام ـ هو يونس بن مَتَّى من الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم باسمه وبوصفه بذي النُّون وبصاحب الحوت، والنُّون هو الحوت، وكان رسولًا إلى أهل ” نِينَوَى ” بالعراق، وكرَّمه سيدنا محمد ـ ﷺ ـ بقوْله، كما في الصحيحيْن: ” ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونُسَ بنِ مَتَّى ” .
ويُستفاد من الآيات التي تحدَّثت عنه أنه دعا قومه وخوَّفهم من عقاب الله إن لم يؤمنوا، ثم تركهم غاضبًا من موقفهم منه، وتوجَّه إلى مكان آخر، فرَكِبَ سفينة كانت مشحونة كادت تغرق بحِملها، وعند الاقتراع على من يتخلَّصون منه فداء للباقين وقع السهم على يونس، وانتهى الأمر إلى إلقائه في البحر، فالتقمه حوت ومكث في بطنه مدة لا يُعرف قدْرُها بالضبط، وسبَّح ربه داعيًا، فنجَّاه الله وطرحه الحوتُ على الشاطئ مُتعَبًا، فأنبَتَ له شجرة من يقطين، وهو القرع، أو كل زرع ليس له ساق، وبعد ذلك أرسله إلى قوم عددهم مائة ألف أو يزيدون، يقال: إنهم هم الأولون الذين غضب منهم، ويقال إنهم غيرهم، ومتَّعهم الله إلى حين آجالهم .
والذي يَلفت النظر في قصة يونس، مما يَمس عصمة الأنبياء، قوله تعالى ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَن نَقْدِرَ عَلِيْه ) ( سورة الأنبياء : 87 ) فمَن الذي غاضبه يونس؟ وكيف يظن أن الله لن يقدر عليه؟ كما أن قوله تعالى فيه: ( فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهَوَ مُلِيْم ) ( سورة الصافات: 142 ) يدل على ارتكابه ما يُلام عليه، وقول يونس في دعائه: ( سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْن ) ( سورة الأنبياء : 87 ) يدل على أنه ارتكب شيئًا منهيًّا عنه، وتحذير الله لنبيه محمد ـ ﷺ ـ بقوله: ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكِ وَلا تُكُن كَصَاحِبِ الحُوت ) ( سورة القلم : 48 ) يدل على أن في يونس أمرًا غير مرضيٍّ عنه، فكيف ذلك؟
والجواب: أن يونس لمَّا رأى معارضة قومه تركهم مغاضِبًا لهم لا مغاضبًا لله، وليست مغاضبة لهم لأمر شخصي، بل خالصة لله. وليس في ذلك عَيْب يُؤاخذ عليه.
وقد يُقال: إذا لم يكن في المغاضبة بهذه الصورة ما يُؤاخذ عليه فكيف يمتحنه الله هذا الامتحان الخطير بابتلاع الحوت له؟ والجواب أن الامتحان كان لتعجُّله بمفارقتهم وعدم انتظار أمر من الله، وكان الأولى أن ينتظر، وإن كان له العذر في أنه اجتهد وأدَّاه اجتهاده إلى ذلك، لكن عتاب الله لأوليائه المقرَّبين قد يكون على ما يتسامح فيه مع الأشخاص العاديين. وممَّا يدل على أن العتاب كان للتعجُّل بالهجرة ـ أمْرُ الله لنبيه محمد ـ ﷺ ـ بالصبر على ما يقوله قومه، ونهْيُه أن يكون كيونس في عدم الصبر.
على أن بعض العلماء رَأَى أن هذه المغاضبة كانت قبل أن يُرسله الله، فتركهم إلى جهة أخرى، وكان الأجدر به كمصلح أن يبقى معهم. ويشفع لرأيهم قولُ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : إن رسالة يونس كانت بعد نجاته من البحر.
أما ظنُّ يونس أن الله لن يقدر عليه فليس فيه نسبة العجز إلى الله، ولكن القَدْرَ ـ بسكون الدال ـ هنا يعني التضييق، كقوله تعالى: ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهُ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله ) ( سورة الطلاق : 7 )، وقوله: ( اَلله ُيَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) ( سورة الرعد: 26 ) فيونس ظن، والظن قد يُراد به اليقين، كما جاء في آيات كثيرة، ظنَّ أن الله لن يُضيِّق عليه واسعًا، وسيُبْدِلُه قومًا غير قومه، وليس في ذلك ما يُعاب عليه.
هذا، وشهادة الله ليونس بقوله: ( فَاجْتَبَاهُ رُبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِيْنَ ) ( سورة القلم : 50 ) تُنبِّهُنا إلى عدَم اتِّهامه بما يَتَنافى مع هذه الشهادة العظيمة.
وفي قصَّة يونس ـ عليه السلام ـ عِبَر، منها أن المتصدِّي للإصلاح يَلْزَمُه الصبر والتحمُّل وسعة الصدر بالأمل، وأن المؤمن إذا صدق في عبادته ودعائه استجاب الله له ونجاه من أخطر المهالك. وأن لله مع أوليائه تصرفاتٍ لا تخضع لقانون الأسباب والمسببات كالمعجزات والكرامات، وأن بعض التسبيح والدعاء خير وأقوى من البعض الآخر، ومنه دعاء يونس في بطن الحوت ( لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِيْن ) ( سورة الأنبياء : 78، 88 )؛ ولذلك قال بعض العلماء استنادًا إلى مأثورات نبوية: إن اسم الله الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب هو دعاء يونس عليه السلام. وهو ليس خاصًّا به، بل هو عام لكل مسلم كما قال سبحانه عقبه: ( وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِيْن ) .