قارئ القرآن لا يخلو من حالات أربعة:
الأولى: أن يَقرأه تَقَرُّبًا إلى الله كما يَتقرب بالذكر والتسبيح وسائر أنواع القُرْبِ.
الثانية: أن يقرأه من أجل إفادة غيره بتعليمه إِيَّاهُ حِفظًا أو تَجويدًا، أو بوعظه وإرشاده به.
الثالثة: أن يقرأه من أجل إفادة غيره بِحُسْنِ صوته وتَطريبِهِ وتَلحينِهِ، أو من أجل العلاج به.
الرابعة: أن يقرأه لِيَهَبَ ثَوَابَهُ إلى الميت. والأجر على هذه القراءة إما أُخْرَوِيٌّ وإما دنيويٌّ، ولكلِ حالةٍ حكمها.
حكم قراءة تَقَرُّبًا إلى الله سبحانه وتعالى:
لها ثوابٌ أُخرويٌّ إذا خَلَتْ من الرِّياءِ، وقد جاءت نصوصٌ كثيرة تُرَغِّبُ في قراءته،
– فالحرف الواحد بِعَشْرِ حسناتٍ،
-يَرْقَى القارئ في درجات الجنة بمقدار ما يقرأ،
-القرآن شافعٌ مُشَفَّعٌ،
-يُلبسه الله تاجَ الكرامة وحُلَّةَ الكرامة ويَرْضَى الله عنه،
-يأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة،
إلى غير ذلك من أنواع الثواب الذي جعله لِقِرَاءَتِهِ بِوَجْهٍ عَامٍّ إلى جانب ما جعله لسورٍ وآياتٍ مخصوصة.
ولا يجوز مطلقا أنْ يَتعاقد على أجر في مقابل هذه القراءة، كالصلاة، وإلا حُرِمَ ثوابَ الله، حيثُ قَصَدَ بالقراءة غيرَ وجهِ الله.
لكن لو قُدِّمَتْ له هديةٌ من أجل تكريمه وتشجيعه على الطاعة فلا مانعَ من قبول الهدية، للتَّرغيب في قَبولها، على شرط ألا يكون متطلعًا لها عند قراءته. وفي مثل هؤلاء المتاجرين بالقراءة والمرائين والمتسولين به يقول الحديث الذي رواه أحمد :”اقْرءُوا القرآنَ ولا تَغْلُوا فيه ولا تَجْفُوا عنه، ولا تأكلوا به ولا تَستكثِرُوا به” والْغُلُوُّ فيه والْجَفْوَةُ عنه هو في التطبيق، مُغالاةٌ في التمسك أو تقصيرٌ وجَفْوَةٌ له، والأكل به هو أَخْذُ المُقابِلِ له كسِعلةٍ تُبَاعُ، والاستكثار به يكون بالرياء والتفاخر والتَّعَالِى، وذلك على بعض ما شُرِحَ به الحديث، وكذلك في مثل هؤلاء يقول الحديث الذي رواه أحمد والترمذي “اقْرءُوا القرآنَ واسألوا الله به، فإنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمًا يَقرءون القرآن يسألون به الناس” وكذلك أحاديثُ أخرى تُقبل في فضائل الأعمال.
حكم قراءة القرآن بمقابل وجعل الثواب لصاحب المال:
جاء في كتاب “الحاوِي للفَتَاوَى” للسيوطي : لو قال شخْصٌ لآخر: اقرأْ لي كل يوم ما تيسر من القرآن واجعلْ ثوابه لي أو لفلانٍ الميتِ، وجعل له على ذلك مالاً معلومًا فَفَعَلَ، فهل يكون ثوابُ القراءة لهذا الشخص أو يكون له مثل الثواب، وهل يَبقى للقارئ ثوابٌ أمْ لا، وما الحكم لو كانت القراءة بدونِ مُقابِلٍ، بل كانت تَبَرُّعًا؟ جاء في الجواب: أن هذه القراءة جائزةٌ شَرْطَ الدعاءِ بعدها والمال الذي أخذه القارئ هو من باب الجعالة، والجعالة هنا على الدعاء لا على القراءة، فإن ثواب القراءة للقارئ ولا يُمكنُ نَقْلُهُ للمدعوِّ له، وإنما يُقال: له مِثْلُ ثوابه فيدعو بذلك ويحصل له إن استجاب الله الدعاء، وكذلك حكم القارئ بدون مُقابِلٍ.
ثم قال السيوطي: مَنْ يقرأْ خَتْمَاتٍ من القرآن بِأُجْرَةٍ هل يَحِلُّ له ذلك؟ وهل يكون ما يأخذه من الأجر من باب التَّكَسُّبِ أو الصدقة؟ وأجاب بقوله: نَعَمْ يَحِلُّ له أَخْذُ المال على القراءة والدعاء بعدها، وليس ذلك من باب الأجرة ولا الصدقة، بل من باب الجعالة، فإنَّ القراءة لا يجوز الاستئجارُ عليها؛ لأن منفعتها لا تَعودُ إلى المستأجر. لِمَا تَقَرَّرَ في مذهبنا ـ الشافعية ـ من أنَّ ثواب القراءة للقارئ، لا للمقروء له، وتجوز الجعالة عليها إنْ شَرَطَ الدعاء بعدها. وإِلَّا فَلَا، وتكون الجعالة على الدعاء لا على القراءة، هذا مُقتضى قواعد الفقه. انتهى.
حكم من يُعَلِّمُ القرآن للحفظ والتجويد أو للوعْظ والتعليم للدين:
له أجر من الله إنْ قَصَدَ به وجهه دون رِياءٍ أو طَلَبِ مُقابلٍ دنيويٍّ، والنصوص كثيرة في الترغيب في التعليم، منها حديث “خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القرآنَ وَعَلَّمَهُ” رواه البخاري ومسلم حديث ” يا أَبَا ذَرٍّ، لِأَنْ تَغْدُو فَتُعَلِّمَ آيةً من كتاب الله خيرٌ لك مِنْ أَنْ تُصلي مائةَ ركعةٍ، ولأنْ تَغدو فتعلم بَابًا من العلم، عُمِلَ به أو لم يُعْمَلْ خيرٌ لك من أن تصلى ألف ركعة” رواه ابن ماجه بإسناد حسن.وحديث الثلاثة الذين هم أول مَنْ تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة، ومنهم رجل تَعَلَّمَ العلم وقرأ القرآن من أجل أنْ يُقالَ إنه عالمٌ وقارئٌ، وقد اسْتوفَى بذلك ما أراد في الدنيا ولم يَعُدْ له ثوابٌ عند الله، فَيُؤْمَرُ به ويُسْحبُ على وجهه ويُلقى في النار رواه مسلم وغيره، ويَنطبق عليهم قول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهُمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود : 15، 16).
أَمَّا أَجْرُ الدنيا على تعليم القرآن والوعظ به، فيُنْظرُ فيه، فإنْ كان واجبًا على القائم به لحاجة المتعلِّم إليه لمعرفة ما يجب عليه ولا يوجد غير هذا المعلم، فَأَخْتَارُ أَلَّا يَستحق عليه أجراً وألا يُساوِمَ على هذا الأجر؛ لأن الواجبَ الدينيَّ ثوابه وأجره عند الله فَقَطّ، والتقصير فيه يَستوجبُ العقوبةَ، أما إنْ كان التعليم غيرَ واجبٍ، فلا مانعَ من أَخْذِ الأجر عليه؛ لأنه أمر اختياريٌّ لا عُقوبةَ في التقصير فيه. وفي كلتا الحالتين ـ وُجوب التعليم وعدم وجوبه ـ لو أُعطيت للمعلم هدية غير مشروطة وغير مُسَاوَمٍ عليها فلا مانعَ من قَبولها، بل يُسَنُّ قَبولهاكَأَيِّ هدية أخرى وكذلك لو خَصَّصَ بيتُ المال أو جِهةٌ مَا مبلغًا من المال يُدْفَعُ للقائمين بذلك تَشجعيًا لهم على التفرغ لهذا العمل وعدم انشغالهم عنه بواجب كسب عيشهم بزراعة أو تجارة مثلاً، وعملهم هذا جهاد في سبيل الله بمعناه الواسع غير القاصر على حمْل السلاح لمواجهة العدو.
وقد وَرَدَ في ذلك حديث أُبَيِّ بن كعب قال: علَّمتُ رجلاً القرآنَ فأهدَى لي قَوْسًا، فذكرتُ ذلك للنبيِّ ـ ﷺ ـ فقال: “إنْ أَخَذْتَهَا أَخَذْتَ قوسًا مِنْ نار” فرددتها، ورواه ابن ماجةَ، ورواه غيره بألفاظ أخرى جاء فيها أنه كان يأكل أيضًا مِنْ طعام مَنْ علَّمه، وأن الرسول أجازه إن كان طعامًا عاديًا لأهل هذا الرجل وليس خاصًا به. وفي هذا الحديث كلامٌ يُضعف الاحتجاجَ به، وبخاصةٍ على الحرمة، وتوضيح ذلك يَرْجِعُ إليه في نَيْلِ الأوطارِ للشوكاني ” ج 5 ص 303″.
ويُستدل على جواز أَخْذِ مُقابل لتعليم القرآن في حالة عدم وجوبه بما أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ أنَّ النبي ـ ﷺ ـ أجاز أنْ يكونَ الصداقُ في الزواج تعليمَ الزوجةِ شيئًا من القرآن. يقول الشوكاني بعد ذكر أحاديثَ النَّهْيِ عن الأكل بالقرآن والسؤال به وعن أَخْذِ القوسِ وتَنَاوُلِ الطعام عند صاحبه: إنه قد استدل بها مَنْ قال: لا تَحِلُّ الأجرةُ على تعليم القرآن وهو أحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة والهادوية، وظاهرُهُ عَدَمُ الفرق بين أخْذِها على تعليمِ مَنْ كان صغيرًا أو كبيرً، وقالت الهادوية : إنما يَحْرُمُ أَخْذُهَا على تعليم الكبير؛ لأجل وجوبِ تعليمه الْقَدْرَ الواجب وهو غير مُتَعَيِّنٍ، ولا يَحْرُمُ على تعليم الصغير لعدم الوجوب عليه .
وقال: وذهب الجمهور إلى أنها تَحِلُّ الأجرة على تعليم القرآن، وأجابوا عن أحاديث المنع بأَجْوِبَةٍ منهاـ إلى جانب الضعف ـ أن الرسول عَلِمَ مِنْ أُبَيِّ بن كعب أنه فعل ذلك خالصًا لوجه الله فَكَرِهَ أَخْذَ الْعِوَضِ عليه، وأما مَنْ علَّم القرآن على أنه لله وأنْ يأخذ من المتعلم ما دفعه إليه بغير سؤال ولا استشراف نفس فلا بَأْسَ به، وأن حديث تحريم السؤال به غير أَخْذِ الأجر على تعليمه، وحديث منع الأكل بالقرآن لا يَستلزمُ المنع من قَبول ما يدفعه المتعلِّمُ بِطِيبِ نَفْسٍ.
وحاول الشوكانيُّ رَدَّ هذه الأجوبةَ بأسلوبٍ يَدُلُّ على تَحمُّسِهِ لمذهب مَنْ حرَّم أخْذ الأجرة، كما حاول الرد على حديث البخاريِّ في جواز أنْ يكون تعليمُ القرآن صَدَاقًا في الزواج وهو أجر، بِعِدَّةِ رُدُودٍ: منها أنه خاصٌّ بهذينِ الزوجينِ وليس عامًّا، بِنَاءً على حديث سعيد بن منصور الذي جاء فيه: “لا يكونُ لأحدٍ بعدكِ مَهرًا”.
هذا، وما دام الجمهور قد أجاز أخْذَ الأجرة على تعليم القرآن، وبخاصةٍ إذا كانت بسخاءِ نَفْسٍ تُشبه الهدية فلا مانع من أخْذ هذا المقابل، مع الوصيَّة بعدم الحرص الشديد عليه وإِيثَارِ ثَوَابِ الله على أجر الدنيا، هذا وقد جاء في تفسير القرطبيِّ “ج 1 ص 334” لقوله تعالى: (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) (البقرة : 41) أن الأحْبار كانوا يُعلِّمون دينهم بالأجرة فَنُهُوا عن ذلك. ثم قال: وهذه الآية وإنْ كانت خاصَّةً ببني إسرائيلَ فهي تَتناولُ مَنْ فَعَلَ فِعلهم، فَمَنْ أخَذ رشوةً على تغيير حقٍّ أو إِبطاله أو امْتنعَ مِنْ تعليمِ ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تَعَيَّنَ عليه حتى يأخذ عليه أجرًا فقد دخل في مُقتضَى الآية . وقد روى أبو داود أن النبي ـ ﷺ ـ قال: “من تعلَّم يَبتغي به وَجْهَ الله عز وجل لا يَتعلمه إلا لِيُصيبَ به عَرَضًا من الدنيا لم يَجِدْ عَرْفَ الجنة يوم القيامة“. يعني ريحها.
ثم قال القرطبي: وقد اختلف العلماء في أخْذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم لهذه الآية وما كان في معناها، فمنع ذلك الزهريُّ وأصحاب الرأْيِ فقالوا: لا يجوز أخْذُ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأن تعليمه واجبٌ من الواجبات التي يُحتاج فيها إلى نِيَّةِ التقرُّبِ والإخلاص، فلا يُؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام، وقد قال تعالى: (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً). وروى ابن عباس أن النبي ـ ﷺ ـ قال: “مُعَلِّمُو صِبيانِكم شرارُكم، أقلُّهم رحمةً باليتيم وأغلظُهم على المسكين)(1) وعن أبي هريرة في المعلمين “دِرهمُهم حرامٌ وثوبهم سُحْتٌ وكلامهم رياء” وروى عبادة بن الصامت أنه علَّم ناسًا من أهل الصُفَّةِ القرآنَ والكتابةَ، فَأَهْدَى إليه رجلٌ منهم قوسًا رأى أنها ليستْ بمالٍ وأنه يَرْمِى بها في سبيل الله، فسأل الرسول عن ذلك فقال: “إنْ سَرَّكَ أنْ تُطَوَّقَ بها طوقًا مِنْ نارٍ فَاقْبَلْهَا”. وأجاز أخْذَ الأجرةِ على تعليم القرآن مالكٌ والشافعيُّ وأحمد وأبو ثور وأكثرُ العلماء، لحديث البخاريِّ “إِنَّ أَحَقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتابُ الله” وهو نَصٌّ يَرْفَعُ الخلاف فينبغي أنْ يُعَوَّلَ عليه.
ثم قال القرطبيُّ: وأما ما احْتَجَّ به المخالف، من القياس على الصلاة والصيام ففاسدٌ؛ لأنه في مقابل النصِّ، ثم إن بينهما فرقانًا، وهو أن الصلاةَ والصيامَ عباداتٌ مختصةٌ بالفاعل، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم، فتجوز الأجرة على محاولته النقل، كتعليم كتابة القرآن. قال ابن المنذر: وأبو حنيفةَ يَكْرَهُ تعليم القرآن بأجرة، ويُجَوِّزُ أنْ يَستأجرَ الرجلَ يَكتبُ له لَوْحًا أو شعرًا أو غناء معلومًا بأجْرٍ معلوم، فيجوز الإجارة فيما هو معصيةٌ ويُبطلها فيما هو طاعة.
وأما الجواب عن الآية فالمراد بها بنو إسرائيل، وشَرْعُ مَنْ قبلِنا هل هو شَرْعٌ لنا؟ فيه خلاف، وهو لا يقول به: وجواب ثانٍ وهو أن تكون الآية فِيمَنْ تَعَيَّنَ عليه التعليم فَأَبَى حتى يَأخذ عليه أجرًا، فأما إذا لم يَتعيَّن فيجوز له أخْذُ الأجرة بدليل السنة في ذلك، وقد تعيَّنَ عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله، فلا يجب عليه التعليم وله أن يَقبل على صنعته وحرفته، ويجب على الإمام أن يُعيِّنَ لإقامة الدين إعانته، وإلا فعلى المسلمين؛ لأن الصديق ـ رضي الله عنه ـ لما وَلِيَ الخلافةَ وعُيِّنَ لها لم يكن عنده ما يُقيم به أهله فأخذ ثيابًا وخرج إلى السوق، فقيل له في ذلك، فقال: ومِنْ أين أُنْفِقُ على عِيالي؟ فَرَدُّوهُ وفَرضوا له كفايته.
وأما الأحاديث فليس شيءٌ منها يقوم على ساقٍ، ولا يَصِحُّ منها شيء عند أهل العلم بالنقل، أما حديث ابن عباس فرواه سعد بن طريف عن عكرمة عنه، وسعيد متروك. وأما حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم عن حمَّاد بن سلمة عن أبي جُرْهُمٍ عنه، وأبو جرهم مجهول لا يُعرف، ولم يَرْوِ حماد بن سلمة عن أحد يُقال له أبو جُرهم، وإنما رواه عن أبي المُهَزِّمِ وهو متروك الحديث أيضًا، وهو حديث لاأصلَ له، وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زِيادٍ الموصليِّ عن عبادة بن نُسِىِّ عن الأسود بن ثعلبةَ عنه، والمغيرة معروف عند أهل العلم ولكن له مناكيرُ، هذا منها، قاله أبو عمر.
ثم قال: وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم؛ لأنه رُوِيَ عن عبادةَ من وجهينِ، ورَوى عن أُبَيِّ بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أُبي، وهو منقطع وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل، وحديث عبادة وأُبي يَحتمل التأويلَ؛ لأنه جائز أن يكون عَلَّمَهُ لله ثم أخذ عليه أجرًا، ورُوِىَ عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال “خَيْرُ الناس وخيرُ مَنْ يمشي على جديد الأرض المعلمون، كلما خَلِقَ الدين ـ صار قديمًا ـ جددوه، أَعْطُوهُمْ ولا تَستأجروهم فَتُحرجوهم، فإن المعلم إذا قال للصبيِّ: قُلْ بسم الله الرحمن الرحيم، فقال الصبيُّ بسم الله الرحمن الرحيم كَتَبَ الُلُه براءةً للصبيِّ، وبراءةً للمعلِّم، وبراءةً لأبويه من النار”. انتهى ما قاله القرطبيُّّ، لكنه لم يذكرْ درجةَ هذا الحديث، وهو إن كان ضعيفًا يعمل به في فضائلِ الأعمالِ.
يَتَلَخَّصُ من هذا، أن الأجر على تعليم القرآن جائز إنْ لم يَتَعَيَّنْ عليه، وكذلك إنْ تَعيَّنَ عليه لكنه مشغول بتحصيل قُوته فَيَجعل له بَيْتُ المال أو المسلمون ما يَجعله متفرغًا للتعليم، ثم قال القرطبيُّ ” ص 337″ واختلفَ العلماء في حكم المصلِّي بأُجرةٍ، فَرَوَى أشهبُ عن مالك أنه سُئِلَ عن الصلاة خَلْفَ مَنْ اسْتؤجِرَ في رمضان يقوم للناس ـ صلاةَ التراويح وقيامَ الليل ـ فقال: أرجو ألا يكونَ به بَأْسٌ، وهو أشدُّ كراهةً له في الفريضة، وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور: لا بَأْسَ بذلك ولا بالصلاة خلفه. وقال الأوزاعيُّ: لا صلاةَ له، وكَرِهَهُ أبو حنيفة وأصحابه.
أصحاب الأصوات الحسنة الذين يَقصدون من قراءتهم إدخالَ السرور على السامعين:
سواء كانت المناسبة أفراحًا وأعيادًا أم عزاءً مثلاً، مع التزام كل الآداب المطلوبة من القراء والسامعين، إن كانت هناك مساومة على الأجر يُمكن أنْ يَنطبق عليه حديث النَّهْيِ عن الأكل والتسول به، وعن الاستكثار والتفاخر بالصوت الجميل؛ لأن العمل ليس تعليمًا للقرآن ولا تعليمًا للدين به، بل مُجَرَّدُ قراءةٍ لا يُقْصَدُ بها وجهُ الله عند بعضهم، فهي قُرْبَةٌ كالصلاة لا تُطلب بها الدنيا ماديًا ولا أدبيا، أما إذا لم تكن مساومةً وأُعطيتْ كهدية فلا مانعَ من قبولها، وقد يُثاب دافعها إنْ قَصَدَ بها تكريم القرآن وحامله إن كان غنيًا، أو مساعدته إن كان محتاجًا للمساعدة.
وإنْ قصد بقراءة القرآن علاج مريض، كالرُّقَى التي أجازها النبي ـ ﷺ ـ فلا مانع من اشتراط الأجر وقبوله. وقد جاء النَّصُّ على هذه الحالة في حديث رواه البخاري عن ابن عباس أن نَفَرًا من أصحاب النبي ـ ﷺ ـ مَرُّوا بماءٍ فيهم لديغٌ أو سليم، فَعَرَضَ لهم رجلٌ من أهل الماء فقال: هل فيكم من راقٍ فإن في الماء رجلاً لديغًا أو سليمًا؟ فانطلقَ رجلٌ منهم فقرأَ بفاتحةِ الكتاب على شِيَاهٍ ـ أي في مقابل شِيَاهٍ ـ فجاء بالشَّاءِ إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أَخَذْتَ على كتاب الله أجرًا؟ حتى قَدِمُوا المدينة فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرًا، فقال رسول الله ـ ﷺ ـ (إنَّ أَحَقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتابُ الله )وجاء في رواية أخرى أن الراقي طلب أجرًا لأن القوم أَبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُمْ وكانوا في حاجةٍ إلى الضيافةِ، وأنَّ الرسول ـ ﷺ ـ قال لأصحابه: “قد أصبتم، اقتسموا واضربوا لي معكم سَهْمًا، وضَحِكَ، وذلك مبالغةٌ في تَأْنِيسِهِمْ، واللديغُ يُطلق عليه أيضًا السَّلِيمُ من باب التفاؤُلِ، وحاول المانعون من أخْذ الأجرة الرَّدَّ على هذا الحديث بأنه منسوخٌ، لكن النَّسْخَ لا يَثْبُتُ بمجرد الاحتمال، بل لابدَّ له من دليلٍ، كما رَدُّوا بأن الأجْرَ فيه هو على الرُّقْيَةِ لا على التلاوة والتعليم، أما الأجر على التعليم فهو ممنوع.
ولا يَخفى ما في هذا مِنْ تَعَسُّفٍ لا داعيَ له، فكل منفعةٍ تُقَدَّمُ للغير يجوزُ أخْذُ مقابل لها ما دامت مشروعةً وغيرَ مُتعيِّنةٍ أما المتعينة كالزكاة فليس لها مقابلٌ ماديٌّ مِمَّنْ أخذها؛ لأنها حَقُّهُ كما قال سبحانه: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). (الذاريات : 19) هذا هو خلاصة ما أخذته من الأحاديث الواردة في أَخْذِ الأجر على القرآن، تلاوةً أو تعليمًا أو إفادةً بطريقٍ مشروعٍ، وقد رأينا خلافَ الفقهاء في جواز الأخْذِ ومنعه، وما دام الأمرُ خلافيًا فلا يجوز التعصب لرأْيٍ، مع التوصية بالمحافظة على جلال القرآن والاهتمام بثواب الله سبحانه.
ويُعجبنا ما ختم به صاحب “مُنتقى الأخبار” الذي شرحه الشوكانيُّ، الأحاديث الواردة في الموضوع، وهو يَميل إلى المنع، فقال بعد ذكر حديث رُقْيَةِ الرجل اللديغ، وقد صَحَّ أن النبي ـ ﷺ ـ زَوَّجَ امرأةً على أنْ يُعلمها سورًا من القرآن. ومَنْ ذهب إلى الرخْصة لهذه الأحاديث حَمَلَ حديث أُبَيٍّ وعبادةَ ـ المانِعينِ ـ على أن التعليم كان قد تَعَيَّنَ عليهما، وحُمِلَ فيما سواهما من الأمر والنهي على النَّدْبِ والكراهة، يَعني على عدم الوُجوب والحُرْمَةِ. هذا.
حكم قراءة القرآن من أَجَّلَ نَفْعَ الميت بها:
ففيها خلاف للعلماء بين المنع من استفادته بها بناءً على أنها عبادة بدنية لا تَقْبَلُ النيابةَ، وبين الجواز بناءً على رجاءِ رحمةِ الله وما ورد من بعض النصوص، ومَنْ تَتَبُّعِ أقوالِ الكثيرينَ يُمكن استنتاج ما يلي:
1 ـ إذا قُرِئَ القرآنُ بحضرة الميت فانتفاعه بالقراءة مَرْجُوٌّ، سواء أكان معها إهداء أم لم يَكُنْ، وذلك بحكم المجاورة، فإن القرآن إذا تُلِىَ، وبخاصة إذا كان في اجتماع، حَفَّتِ القارئينَ الملائكةُ، وغَشيتهم الرحمةُ، ونَزَلَتْ عليهم السكينةُ، روى مسلمٌ قولَ النبي ـ ﷺ: “ما اجْتمعَ قومٌ في بيت من بيوت الله يَقرءونَ كتاب الله ويَتدارسونه بينهم إلا حَفَّتْهُمُ الملائكةُ وغَشِيَتْهُمْ الرحمة ُونزلتْ عليهم السكينةُ” والقرآن ذِكْرٌ بل أفضلُ الذكرِ، وقد روى مسلم وغيره حديث “لا يَقْعُدُ قومٌ يَذكرونَ الله إلا حَفَّتْهُمُ الملائكةُ وغشيتْهُمُ الرحمةُ ونَزلتْ عليهم السكينةُ وذَكَرَهُمُ الله فِيمَنْ عنده” بل لا يُشترط لنزول الملائكة وغيرهم أن تكون القراءةُ أو الذكرُ في جماعةٍ، فيحصل ذلك للشخص الواحد.
روى البخاري ومسلم حديث أُسيد بن حُضَيْرٍ الذي كان يقرأ القرآن في مِرْبِدِهِ وبجواره ولده وفرسه، وجاء فيه: فإذا مِثْلُ الظُّلَةِ فوق رأسي، فيها أَمْثَالُ السُّرُجِ عَرَجَتْ في الجو حتى ما أراها، فقال له رسول الله ـ ﷺ ـ (تلك الملائكةُ تَستمعُ لك، ولو قَرَأْتَ لأصْبَحَتْ يَراها الناسُ ما تَسْتَتِرُ منهم). على أن النصَّ قد جاء بقراءة “يس” عند الميت، روى أحمد وأبو داود والنسائي، واللفظ له، وابن ماجه وابن حِبَّان والحاكم وصَححاه أن النبي ـ ﷺ ـ قال: ” قَلْبُ القرآن يس، ولا يَقرؤها رجلٌ يُريدُ اللهَ والدار الآخرة إلا غَفَرَ الله له، اقْرأُوها على مَوْتاكم” . وقد أَعَلَّ الدَّارَقُطْنِي وابن القَطَّان هذا الحديث، لكنْ صَحَّحَهُ ابن حبان والحاكم، وحمله المصحِّحونَ له على القراءة على الميت حالَ الاحْتِضَارِ، بِنَاءً على حديثٍ في مُسند الفردوس “مَا مِنْ ميتٍ يَمُوتُ فَتُقْرَأُ عنده يَس إلا هَوَّنَ الله عليه”.
لكن بعض العلماء قال: إن لفظ الميت عَامٌّ لا يَختصُّ بالمُحتضِرِ، فلا مانعَ مِن استفادتِهِ بالقراءة عنده إذا انْتهتْ حياته، سَواء دُفِنَ أم لم يُدفن، روى البيهقيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أن ابن عمرَ استحبَ قراءة أول سورة البقرة وخاتمتَهَا على القبر بعد الدفن . وابن حِبَّان الذي قال في صحيحه مُعلقًا على حديث “اقرءوا على موتاكم يس” أراد به مَنْ حَضَرَتْهُ المنيةُ لا أنَّ الميتَ يُقْرَأُ عليه، رَدَّ عليه المحبُّ الطبريُّ بأنَّ ذلك غير مُسَلَّمٍ له وإنْ سَلِمَ أنْ يكون التلقينُ حَالَ الاحْتِضَارِ.
قال الشوكانيُّ: واللفظُ نَصٌّ في الأموات، وتَناوله للحيِّ المُحتضرِ مَجَازٌ فلا يُصارُ إليه إلا لِقَرينةٍ “نَيْلُ الأوطار ج 4 ص 52”. والنوويُّ ذَكَرَ في رياض الصالحين تحت عنوان: الدعاءُ للميت بعد دفنه والقعودُ عند قبره ساعةً للدعاء له والاستغفارُ والقراءة “الباب الحادي والستون بعد المائة” ذكر أن الشافعيَّ قال: يُستحبُ أَنْ يُقرأَ عنده شيء من القرآن، وإنْ خَتَمُوا القرآنَ كان حسنًا. وجاء في المغني لابن قدامةَ “ص 758” تُسَنُّ قراءةُ القرآنِ عند القبر وهِبَةُ ثوابِها، وروى أحمد أنه بِدْعَةٌ، ثم رجع عنه. وَكَرِهَ مالكُ وأبو حنيفةَ القراءةَ عند القبر حيث لم تَرِدْ بها السنة. لكنَّ القرافيَّ المالكيَّ قال: الذي يُتَّجَهُ أنْ يَحْصُلَ للموتى بركة القراءة، كما يَحصل لهم بركةُ الرجل الصالحِ يُدْفَنُ عندهم أو يُدفنون عنده.
2 ـ إذا قُرِئَ القرآنُ بعيدًا عن الميت أو عند القبر وامْتنعَ انتفاعُهُ به بحكم المجاورة وحضور الملائكة، اختلف الفقهاء في جَوَازِ انتفاعِ الميت به، وهناك ثلاثُ حالاتٍ دَارَ الخلاف حولها بين الجواز وعدمه:
الحالة الأولى: إذا قرأ القارئُ ثم دعا الله بما قرأ أنْ يَرْحَمَ الميتَ أو يَغفرله، فقد تَوَسَّلَ القارئُ إلى الله بعمله الصالح وهو القراءةُ، ودعا للميتِ بالرحمةِ، والدعاءُ له مُتَّفَقٌ على جوازه وعلى رجاء انتفاعه به إنْ قَبِلَهُ الله، كَمَنْ تَوسَّلُوا إلى الله بصالح أعمالهم فانفرجتْ عنهم الصخرةُ التي سَدَّتْ فَمَ الغارِ. وفي هذه الحالة لايَنبغي أنْ يكون هناك خلافٌ يُذكر في عدم نفع الميت بالدعاء بعد القراءة.
الحالة الثانية: إذا قرأ القارئ ثم دعا الله أن يُهدَي مثلُ ثوابِ قراءتِهِ إلى الميت. قال ابن الصلاح: وينبغي الجزمُ بِنَفْعِ: اللهمَّ أَوْصِلْ ثوابَ ما قرأناه، أي مثله، فهو المراد، وأنْ يُصَرِّحَ به لفلان؛ لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي فما له أَوْلَى، ويَجرى ذلك في سائر الأعمال. ومعنى كلام ابن الصلاح أن الداعيَ يدعو الله أنْ يَرحم الميت: والرحمة ليست ملكًا له بل لله، فإذا جاز الدعاء بالرحمة وهي ليست له فَأَوْلَى أنْ يَجوز الدعاء بما له هو، وهو ثواب القراءة أو مثلها. وكذلك يَجوز في كل قُرْبَةٍ يَفعلها الحيُّ من صلاة وصيام وصدقة، ثم يدعو بعدها أن يُوَصِّلَ الله مِثْلَ ثوابها إلى الميت.
وقد تَقَدَّمَ كلامُ ابن قدامةَ في المغني عن ذلك. والدعاء بإهداء مثل ثواب القارئ إلى الميت هو المراد من قَوْلِ المُجِيزِينَ: اللهم أَوْصِلْ ثوابَ ما قرأتُهُ لفلان.
الحالة الثالثة: إذا نَوَى القارئُ أنْ يكون الثواب، أي مثله، للميت ابتداء أي قبل قراءته أو في أثنائها يَصِلُ ذلك إنْ شاء الله، قال أبو عبد الله الأُبَيُّ: إنْ قرأ ابتداءً بِنِيَّةِ الميت وَصَلَ إليه ثوابُهً كالصدقة والدعاء، وإنْ قرأ ثُمَّ وَهَبَهُ لم يَصِلْ؛ لأن ثواب القراءة للقارئ لا يَنتقل عنه إلى غيره.
وقال الإمام ابن رشد في نوازله: إنْ قرأ ووَهَبَ ثوابَ قِراءته لميت جاز وحصل للميت أَجْرُهُ، ووَصَلَ إليه نَفْعُهُ،ولم يَفصل بين كون الْهِبَةِ قبل القراءة أو معها أو بعدها، ولعله يُريد ما قاله الأبي . هذا، وانتفاعُ الميت بالقراءة مع الإهداء أو النية هو ما رآه المُحَقِّقُونَ مِنْ مُتأخرِي الشافعيِّ، وأُولوا المنع على معنى وُصول عَيْنِ الثواب الذي للقارئ أو على قراءته لا بحضرة الميت. ولا بِنِيَّةِ ثواب قراءته له، أو نِيَّته ولم يَدْعُ له، وقد رَجَّحَ الانتفاعَ به أحمدُ وابن تيمية وابن القيِّمِ. وقد مَرَّ كلامهم في ذلك.
قال الشوكانيُّ: “نيل الأوطار ج 4 ص 142” : المشهور من مذهب الشافعيِّ وجماعة من أصحابه أنه لا يَصِلُ إلى الميت ثواب قراءة القرآن وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعيِّ إلى أنه يَصِلُ، كذا ذكره النوويُّ في الأذكار، وفي شرح المنهاج: لا يَصِلُ إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور، والمُختارُ الوُصولُ إذا سَأَلَ الله إِيصالَ ثوابِ قراءته، ويَنبغي الجزْمُ به؛ لأنه دعاءٌ، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعي فلأنْ يَجوز بما هو له أَوْلَى، ويَبقى الأمر فيه موقوفًا على استجابة الدعاء.
وهذا المعنى لا يَخْتَصُّ بالقراءة، بَلْ يَجري في سائر الأعمال. والظاهر أن الدعاء مُتَّفَقٌ عليه أنْ يَنفعَ الميتَ والحيَّ، والقَريبَ والبَعِيدَ، بِوَصِيَّةٍ وغيرها، وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضلُ الدعاء أنْ يَدعو لأخيه بِظَهْرِ الغَيْبِ. أهـ. هذا، وقد قال الأبيُّ: والقراءةُ للميتِ، وإنْ حَصَلَ الخلاف فيها فلا يَنبغي إهمالُها، فَلَعَلَّ الحقَّ الوُصولُ، فإنَّ هذه الأمور مُغَيَّبَةٌ عَنَّا، وليس الخلاف في حكمٍ شَرْعِيٍّ إنما هو في أَمْرِ هل يَقَعُ كذلك أم لا. وأنا مع الأُبي في هذا الكلام، فإنَّ القراءة للميت إنْ لم تَنفع الميت فهي للقارئ، فالمستفيدُ منها واحدٌ منهما، ولا ضَرَرَ منها على أحدٍ. مع تَغليبِ الرجاء في رحمة الله وفضله أنْ يُفيد بها الميت كالشفاعة والدعاء وغيرهما. وهذا الخلاف مَحَلُّهُ إذا قُرِئَ القرآنُ بغير أجر،
أما إذا قُرئ بأجر، فالجمهور على عدم انتفاع الميت به؛ لأن القارئ أَخَذَ ثوابه الدنيويَّ عليها فلم يَبْقَ لديه ما يُهديه أو يُهدي مثل ثوابه إلى الميت، ولم تَكُنْ قراءته لوجه الله حتى يَدعوه بصالح عمله أنْ ينفع بها الميت، بل كانت القراءة للدنيا. ويتأكد ذلك إذا كانت هناك مُساومةٌ أو اتفاقٌ سابقٌ على الأجر أو معلوم مُتعارفٌ عليه، أَمَّا الهدية بعد القراءة إذا لم تَكُنْ نفس القارئ مُتعلقةً بها، فقد يُرجى من القراءة النفع للميت والأعمالُ بالنياتِ، وأُحَذِّرُ قارئَ القرآن من هذا الحديث الذي رواه أحمد والطبرانيُّ والبيهقيُّ عن عبد الرحمن بن شِبْلٍ (اقْرأُوا القرآن واعملوا به، ولا تَجْفُوا عنه، ولا تَغْلُوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تَستكثِرُوا به) قال الهيثميُّ: رجالُ أحمدَ ثِقَاتٌ، وقال ابن حجر في الفتح: سَنَدُهُ قويٌّ. وفَسَّرَ الأكْلَ به بِأَخْذِهِ الأُجْرَةَ عليه، كما فسَّره بالاستجداءِ به والتَّسَوُّلِ.
وقد قال الشيخ حسنين محمد مخلوف في أَخْذِ الأُجْرةِ على قراءة القرآن: مذهب الحنفيَّةِ لا يَجوزُ أخْذُهَا على فِعْلِ القُرْبِ والطاعات كالصلاة والصوم وتَعليمِ القرآن وقراءته، ولكنَّ المُتأخرينَ مِنْ فُقهاء الحنفية اسْتَثْنَوْا من ذلك أُمورًا، منها تعليم القرآن، فقالوا بِجوازِ أَخْذِ الأجرة عليه استحسانًا، خَشْيَةَ ضَيَاعِهِ، ولكنْ بَقِىَ حُكْمُ أَخْذِ الأجرة على قراءة القرآن على ما تَقَرَّرَ في أَصْلِ المذهب من عدم الجواز.
ومذهب الحنابلةِ لا يجوز أَخْذُ الأُجْرةِ على تعليم القرآن ولا على قراءته، استنادًا إلى حديث “اقرءوا القرآنَ …” الذي تقدم.. ومذهب المالكية لا يُجَوِّز أخذ الأجرة على ما لا يَقبلُ النيابةَ من المطلوب شرعًا كالصلاة والصيام ولكنْ يَجوز أخذ الأجرة على ما يَقبل النيابة، ومنه تعليم القرآن وقراءته، ومذهب الشافعية يجوز أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه، سواء أكانت القراءةُ عند القبر أوبعيدةً عنه، مع الدعاء بوصول الثواب إلى الميت. أهـ “”.
الهوامش (1) حديث موضوع.