ليس التحريم خاصًّا بالسائل المشروب، لأن من الضروري لشريعة تبنى أحكامها على حفظ المصالح ودفْع المضار أن تُحرم كل مادة من شأنها أن تُحدث مثل تلك الأضرار أو أشد، سواء أكانت تلك المادة سائلًا مَشروبًا، أو جامدًا مأكولًا، أو مَسحوقًا مشمومًا ، وبذلك أجمع على حرمة “المخدرات” فقهاءُ الإسلام، الذين ظهرت في عهدهم ، وقد كان تحريم الخمر لمَا فيها من الضرر، لذا كانت تلك المواد مُحرمة مِن نوع تحريم الخمر إنْ لم يكن أشدَّ .
يقول فضيلة الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله :
هذه الأضرار التي ظهرت للخمر وعَرفها الناس، والتي لم تظهر ويعلمها الخبير بطبائع الأشياء، هي مناط تحريمها، وإذا كانت هذه الآثار المتعددة النواحي هي مناط التحريم كان من الضروري لشريعة تبنى أحكامها على حفظ المصالح ودفْع المضار أن تُحرم كل مادة من شأنها أن تُحدث مثل تلك الأضرار أو أشد، سواء أكانت تلك المادة سائلًا مَشروبًا، أو جامدًا مأكولًا، أو مَسحوقًا مشمومًا، وهذا طريق من طُرق التشريع الطبيعية، عرَفه الإنسان منذ أدرك خواص الأشياء، وقارن بعضها ببعض، وقد أقرَّه الإسلام طريقًا للتشريع، وأثبتَ به حُكم ما عُرف للذي لم يُعرف؛ لاشتراكها في الخواص.
ومِن هنا لزِم ثُبوت تلك الأحكام في كل مادة ظهرت بعد عهد التشريع، وكان لها مثل آثار الخمر أو أشد. ومن الواضح أن قوله ـ عليه السلام ـ: “كلُّ مُسكرٍ حرامٌ”. لا يُقصد به مجرد التسمية؛ لأن الرسول ليس واضعَ أسماء ولُغات، وإنما القصد منه: أنه يأخذ حُكم الخمر في التحريم والعقوبة.
وإذا كان من المُحَسِّ المشاهَد، والمعروف للناس جميعًا، أن المواد المعروفة الآن “بالمخدرات”، كالحشيش والأفيون والكوكايين، لها من المَضار الصحية والعقلية والروحية والأدبية والاقتصادية والاجتماعية فوق ما للخمر كان من الضروري حُرمتها في نظر الإسلام، إن لم يكن بحَرْفِيَّةِ النصِّ فبرُوحه ومعناه، وبالقاعدة العامة الضرورية التي هي أول القواعد التشريعية في الإسلام، وهي دفْعُ المَضَارِّ، وسَدُّ ذرائعِ الفساد.
حُرْمة المُخدِّرات:
وبذلك أجمع على حرمة “المخدرات” فقهاءُ الإسلام، الذين ظهرت في عهدهم، وتبيَّنوا آثارها السيئة في الإنسان وبيئته ونَسْله، وعرفوا أنها فوق آثار الخمر الذي حرَّمته النصوص الصريحة الواضحة في كتاب الله وسُنة رسوله، وحرَّمه النظرُ العقلي السليم، قرَّروا حرمتها، وقرروا عقوبة تناولها، كما قرروا حرمة الاتِّجار بها وعقوبة المُتجرين. وقرروا أن استحلالها كاستحلال الخمر .
وقد جاء في كُتبهم : “ويحرم أكْل البنْجِ والحشيش والأفيون؛ لأنها مفسدة للعقل، وتصدُّ عن ذِكْرِ الله وعن الصلاة، ويجب تعزير آكلِها بما يَرْدَعُه” .
وقال ابن تيمية : “إن فيها مِن المفاسد، ما ليس في الخمر، فهي أولَى بالتحريم، ومَنِ استحلَّها، وزعم أنها حلالٌ فإنه يُستتاب، فإنْ تاب وإلا قُتِلَ مُرتدًّا، لا يُصلَّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين” .
وقال تلميذه ابن القيم : “يدخل في الخمر كل مُسكر، مائعًا أو جامدًا، عصيرًا أو مطبوخًا، واللقمة المَلعونة، لقمة الفِسْقِ والفُجور التي تُحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن” .
ويَعني باللقمة الملعونة “الحشيشة”، هذه اللقمة التي تذهب بنَخْوَةِ الرجال، وبالمعاني الفاضلة في الإنسان، وتجعله غير وفيٍّ إذا عاهد، وغير أمينٍ إذا اؤْتُمِنَ، وغير صادقٍ إذا حدَّث. تُميت فيه الشعور بالمسئوليات، والشعور بالكرامات، وتَملؤه رُعبًا ودناءةً وخيانة لنفسه ولمَن يُعاشر، وبذلك يُصبح ـ كما ترون ـ عضوًا غير صالح في المجتمع الفاضل، بل عضوًا فاسدًا موبوءًا يسري وباؤه وفساده إلى المجتمع الفاضل فيُوبئه ويفسده. وإذنْ، فمِن أوجب الواجبات العمل على ردْعه، وِقايةً للمجتمع مِن شَرِّهِ.
الحكومات الساهرة على مَصلحة شُعوبها:
وقد أدركت الأمم التي وصلت إليها تلك المواد وما لها مِن آثار سيئة تُقوِّض المجتمع، وقامت الحكومات الساهرة على مصلحة شعوبها بمُكافحتها، فرصدت الأموال الطائلة، وبذلتِ الجهود المُضنية في سبيل القضاء عليها وعلى المُتجرين بها، بما جعلها في مصافِّ الجرائم الكبرى التي تفتك بالمجتمع، وتقضي على معاني الإنسانية فيه.
انحرافٌ آخرُ في حكم المخدرات:
ومِن هنا يكون الذين نسمع عنهم، أو يسمع الناس منهم، أن “الحشيشة وما إليها” لم يُحرمها القرآن، ولم تُحرمها سُنة الرسول، ولم يرِد عن الأئمة الأوائل شيء في تحريمها، من الذين يفترون على الله الكذب، ومِن الذين يقولون على الله بغير علْم، ومِن الذين يعملون على إفساد المجتمع الإسلامي، عن طريق دَسِّ السمِّ في الدَّسَم، وبذلك تكون جريمتهم مُضاعفة، جريمة إفساد المجتمع، وجريمة الافتراء على الله، وجريمة استخدام الدِّين في الشهْوة والهوى وإفساد المسلمين.
نعم، لم يرِد في القرآن ولا في أقوال الرسول ـ عليه السلام ـ ولا أقوال الأَئمة المُتقدمينَ شيء خاص بتلك المواد، لا في حِلِّهَا ولا في حُرمتها؛ لأنها لم تكن معروفة في زمَنهم جميعها، وإنما ظهرت كما قال الإمام ابن تيمية فيما بين المائة السادسة والمائة السابعة من الهجرة، حينما ظهرت دولة التتار. وإذا كانت قواعد التشريع في الإسلام معروفة، وأن تحريم الخمر ليس تعبديًّا، وإنما كان محرمًا لمَا فيه من الضرر، كانت تلك المواد ـ ولا شكَّ ـ مُحرمة في نظر الإسلام، وكان تحريمها مِن نوع تحريم الخمر إنْ لم يكن أشدَّ.
أملٌ ورجاء في منْع الخمور:
أما بعدُ : فهذا هو حُكم الإسلام في كل ما أسْكر، وفي كل ما يَخرج بالإنسان عن إنسانيته، ونرجو أن نرى قريبًا أن قوى المُكافَحة ـ التي تُوجهها الحكومات وتُرسل شُواظها نحو المخدرات ـ اتَّجهت أيضًا إلى مكافحة “أم الخبائث” شُرْبًا وتجارةً واستيرادًا، (يا أيُّها الذينَ آمنوا اسْتَجِيبُوا للهِ وللرَّسُولِ إذَا دَعَاكمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) الأنفال 24 .