التوبة لا ترد وتقبل في كل حال إذا تحققت وكانت صادقة، فمن تاب توبة صادقة لا نفاق فيها ولا تردد ولا شك قبلها الله تعالى وغفر له ما تقدم من ذنبه حتى الشرك بالله تعالى.
ولا يستثنى من ذلك إلا حالتين: الموت على الكفر أو الشرك، ويلحق به غرغرة الموت ، لأنها أول الموت، وطلوع الشمس من مغربها.ولا دليل على استثناءات أخرى، بينما وردت الأدلة الصحيحة على هاتين الحالتين.
فمن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وعصيانه مفوض إلى الله تعالى إن شاء عاقبه تطهيرا له قبل دخول الجنة وإن شاء عفا عنه، بدليل قوله تعالى : (إن الله يغفر الذنوب جميعا ) بالتوبة، حتى الشرك، وأما قوله تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به) أي لمن مات على الشرك، وما ذكرته من الآيات التي تتحدث عمن ماتوا على الكفر والشرك يصح الاستدلال به على قبول توبة المرتد ولو مرارا، بشرط أن تكون التوبة فبل مباغتة الموت أو طلوع الشمس من مغربها ، وأن تكون توبة صادقة يستقر معها الإيمان في القلب دون ترد ولا شك .
وهؤلاء الذين ذكروا في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَِ) آل عمران: 90، و قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ) النساء:137، هم الذين ترددوا بين الكفر والإيمان فلم يتحقق إيمانهم ، ولذلك كانوا لا يثبتون عليه ولا يتمسكون به، وميلهم إلى الكفر أكثر ، ولذلك يزدادون منه ، فالازدياد يقتضي كفرا جديداً، فأخبر الله تعالى أنهم ما داموا على هذه الحال فلن تقبل توبتهم، ولكن إذا ما تابوا توبة صادقة وآمنوا إيمانا حقيقيا لا نفاق فيه ولا شك ولا تردد فالله تعالى يقبلهم بلا ريب.
قال القرطبي في تفسير الآية:
قال قتادة و عطاء الخرساني و الحسن : نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد ﷺ والقرآن . وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد ﷺ بعد إيمانهم بنعته وصفته ، ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على كفرهم . وقيل : ازدادوا كفرا بالذنوب التي اكتسبوها . وهذا اختيار الطبري ، وهي عنده في اليهود . لن تقبل توبتهم مشكل لقوله : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات فقيل : المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت . قال النحاس : وهذا قول حسن ، كما قال عز وجل : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن . وروي عن الحسن وقتادة وعطاء . وقد قال ﷺ : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر . وسيأتي في النساء بيان هذا المعنى . وقيل : لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا ، لأن الكفر قد أحبطها . و قيل : لن تقبل توبتهم . إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر ، و إنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الإسلام . و قال قطرب . هذه الآية نزلت في قوم من أهل مكة قالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا . فأنزل الله تعالى : إن الذين كفروا بعد إيمنهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم . أي لن تقبل توبتهم وهم مقيمون على الكفر ، فسماها توبة غ ير مقبولة ، ، لأنه لم يصح من القوم عزم ، و الله عز و جل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم. (انتهى).
وروى النسائي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم تندم فأرسل إلى قومه سلوا لي رسول الله ﷺ هل لي من توبة فجاء قومه إلى رسول الله ﷺ فقالوا إن فلانا قد ندم وإنه أمرنا أن نسألك هل له من توبة فنزلت: { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم… إلى قوله: غفور رحيم } فأرسل إليه فأسلم.
فالكافر بعد إيمانه مرتد ، وقد أخبر الله تعالى أنه إن تاب وأصلح فإن الله غفور رحيم، أي يقبل توبته.
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : ” إن عبدا أذنب ذنبا فقال : رب أذنبت فاغفره فقال ربه أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا فقال : رب أذنبت ذنبا فاغفره فقال ربه : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا قال : رب أذنبت ذنبا آخر فاغفر لي فقال : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي فليفعل ما شاء ” والذنب هنا مطلق غير محدد ، ويدخل فيه الردة.
ولكن الخطورة تكمن في أن المرتد مرارا لا يؤمن أن يعود في كل مرة إلى الإسلام، فقد يختم الله على قلبه بالكفر وقد عاوده مرارا بعدما عرف الحق ، أو يبادره الموت قبل العودة إلى الإسلام.
جاء في الموسوعة الفقهية :
مذهب الشافعية وهو المشهور في مذهب الحنفية والمالكية إلى أنه تقبل توبة المرتد ولو تكررت ردته لإطلاق قوله تعالى: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ {الأنفال:38}، وقول النبي ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. متفق عليه.
لكنهم صرحوا بأن المرتد الذي تكررت منه الردة إذا تاب ثانيا عزر بالضرب وبالحبس ولا يقتل، قال ابن عابدين: إذا ارتد ثانياً ثم تاب، ضربه الإمام وخلى سبيله، وإن ارتد ثالثا ثم تاب ضربه ضربا وجيعا ثم حبسه حتى تظهر عليه آثار التوبة ويرى أنه مخلص ثم خلى سبيله، فإن عاد فعل به هكذا أبدا حتى يرجع إلى الإسلام، وقد جاء مثل هذا عن المالكية والشافعية.
وصرح الحنابلة وهو رواية عند الحنفية ونسبت إلى مالك بأنه لا تقبل توبة من تكررت ردته في الظاهر، أما بينه وبين الله فأمره إليه سبحانه، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً {النساء:137}، أي ما داموا على حالهم.
فالكل متفقون على صحة التوبة وقبولها عند الله تعالى إن صدقت .