التشريع في الإسلام ليس محصوراً في الحدود والعقوبات كما يتصور بعض الناس أو يصوّرون، إن التشريع في الإسلام ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، والإسلام لا يتلمس الأسباب لإقامة الحدود على الناس ، بل إنه على العكس يضع الشروط والضوابط الشديدة التى تكاد تحول دون إقامة هذه الحدود، فبمجرد وجود شبهة يسقط الحد..
هل الإسلام دين عقوبات
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
الإسلام ليس دين عقوبات بقدر ما هو دين توازن بين الأسباب والنتائج ، ولذا فكل عقوبة تقدر بقدرها ، ولا تتم إلا بعد أن تزال الأسباب التي يمكن أن تؤدي إليها .
ولهذا يعنى الإسلام بتكوين ما يمكن تسميته الضمير الجماعي أو ضمير الجماعة الذى يربي على الحساسية المرهفة لأداء الواجب قبل أن يطلب أداؤه ، والإحساس بالمنكر ورفضه قبل أن يستفحل شره وبهذا تكون الحماية الذاتية من المجتمع لنفسه دون تدخل من القانون .
ففي موضوع السرقة مثلا نلاحظ أن الإسلام قرر للمسلم - بل وغير المسلم ما دام في مجتمع المسلمين - حدًا من توفير المطالب والحاجات يسمى في العرف حد الكفاية ، أي الحد الذى لا يجعله يحتاج إلى ما بأيدي الآخرين .
والفقهاء يضعون شروطا لاعتبار الإنسان سارقا تؤكد ما أشرت إليه ؛ وبعض الفقهاء يرى أنه لا يقطع السارق إلا إذا كان قد توفر لديه طعام يكفيه الغذاء وبيت يؤويه السكن وزوجة وخادم ودابة وسيلة انتقال .
والفقهاء يقررون هذه الشروط انطلاقا من الفلسفة العامة للإسلام الذي قرر للفقراء حقوقا في أموال الأغنياء ، وحرم الجنة على من يبيت شبعان وجاره جائع واشترط توفير الكفالة الاجتماعية لكل مواطن حتى لا تضطره الحاجة إلى السرقة ، فإذا سرق بعد توفر حد الكفاية فقد أصبح منحرفا وشاذا يجب حماية المجتمع من شره .
وفي موضوع الزنا كفل الإسلام أسباب الوقاية من الوقوع فيه عندما يسٍر أسباب الزواج وحث عليه وأمر بتيسير المهور وأباح للرجل أن يتزوج بما معه من القرآن .
كما صان المجتمع من مثيرات الشهوات من التبرج والخلاعة وكل ما يثير الحس ويشيع الفاحشة .
وفوق هذا أباح الزواج بأكثر من واحدة لمن تغلبهم شهواتهم حتى لا ينحرفوا؛ فمن زنى بعد ذلك فقد استحق إقامة الحد عليه .
هل الإسلام يتلمس الأسباب لإقامة الحدود
على أن مما يؤكد أن الإسلام لا يتلمس الأسباب لإقامة الحدود على الناس ، بل إنه على العكس يضع الشروط والضوابط الشديدة التي تكاد تحول دون إقامة هذه الحدود لمجرد وجود شبهة فيسقط الحد .
فحد الزنا لا يقام إلا إذا شهد عليه أربعة شهود عدول ؛فإن كانوا ثلاثة فقط أقيم عليهم هم حد القذف ، ولعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موقف يحسن ذكره هنا وذلك حين سأل الإمام عليا – رضي الله عنهما - وكان هو الأمير وقال له : يا أبا الحسن : أرأيت لو أني رأيت بعيني - أي حالة الزنا – وسمعت بأذني أأقضى به ؟ فقال علي - رضي الله عنه – البينة - أي اكتمال عدد الشهود الأربعة - وإلا فالحد في ظهرك أنت أي يقيم على أمير المؤمنين حد القذف . وعليه فليست المسألة تلمسا للحدود وبحثا عنها ، بل الإسلام يلتمس للمخطئ وجوه البراءة فيقول الرسول لمن جاء إليه يعترف بأنه زنى فيقول له : لعلك لمست ، لعلك قبلت لعلك لعلك ، وكأنما يريد أن يفتح أمامه باب الرجوع عن الاعتراف ، ولهذا يقول ﷺ “ ادرأوا الحدود بالشبهات “.
ولم يقم حد الزنا في الإسلام في عصر النبوة إلا بالاعتراف في واقعة امرأة تسمى الغامدية مع رجل يسمى ماعزا ؛ فقد جاءت المرأة إلى الرسول ﷺ تطلب التطهر بإقامة حد الزنا واعترفت ؛ والاعتراف سيد الأدلة كما نقول – وكانت حاملا فردها الرسول حتى تضع حملها - وحتى تراجع نفسها وربما نفت اعترافها - فلما وضعت جاءت فردها حتى تفطم الرضيع فلما فطمته جاءت وبيده كسرة طعام فأمر بها فأقاموا عليها الحد .
وعند التنفيذ سبها أحدهم بكلمة فقال صلوات الله عليه .. لا .. لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم . أما القول بوحشية العقوبة في مجملها سرقة أو زنا فأرجو أن يتصور هؤلاء حال المسروق منه - ولا سيما فيما يعرف بجرائم السرقة بالإكراه - مقدار الفزع والرعب الذى يتعرض له ، ثم مقدار النكبة التي تحل به عندما يفقد ماله .
وأذكر بما سبق ذكره من أن الحد لا يقام على السارق المحتاج الذي تدفعه الضرورة - ضرورة الحاجة وضرورة إهمال المجتمع له – إلى السرقة ، فإذا سرق وهو غير محتاج كانت العقوبة في مستوى عنف الجرم دون زيادة .
وبالنسبة للزنا أذكر الغاضبين من عنف العقوبة أن الرجم لا يكون إلا للزاني المحصن أي الذى له زوجة تشبع حاجته فإن لم تشبعه فمباح له أن يتزوج بأخرى ، أما أن يزني فهو منحرف وشاذ يجب تطهير المجتمع منه .
وأذكر هؤلاء أيضا بأن الشروط المشار إليها لتطبيق العقوبة – أربعة شهود عدول يقررون أنهم سمعوا ورأوا - فهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا أقدم هذا الزاني على جريمته في مجتمع عام ، وهو بهذا نموذج خرج من حال الإنسانية إلى حال الكلاب والحيوانات فتطهير المجتمع منه واجب.
هل التشريع في الإسلام محصوراً في الحدود
التشريع في الإسلام ليس محصوراً في الحدود والعقوبات كما يتصور بعض الناس أو يصوّرون، إن التشريع في الإسلام ينظم العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأسرته، وبين الإنسان ومجتمعه، وبين الحاكم والمحكوم، وبين الأغنياء والفقراء، والملاك والمستأجرين، وبين الدولة الإسلامية وغيرها في حالة السلم وحالة الحرب. فهو قانون مدني و إداري، ودستوري ودولي …… إلخ إلى جانب أنه قانون ديني.
ولهذا اشتمل الفقه الإسلامي على العبادات والعاملات، والأنكحة والمواريث، والأقضية والدعاوى، والحدود والقصاص والتعازير، والجهاد والمعاهدات، والحلال والحرام، والسف والآداب، فهو ينظم حياة الإنسان من أدب قضا ء الحاجة للفرد إلى إقامة الخلافة والإمامة العظمى للأمة. إن الحدود هي السياج، وهي الإعلان الناطق بأن المجتمع المسلم يرفض جرائم معينة، ولا يسمح بها بحال من الأحوال.
والحدود – كما شرعها الإسلام – ليست بالبشاعة التي يتصورها بعض الناس أو يصورها المبشرون والمستشرقون.
وليس بالتشريع وحده يبني المجتمع المسلم، بل لا بد من وسيلتين أخريين: الدعوة والتوعية، ثم التعليم والتربية، إلى جوار التشريع والقانون، بل قبل التشريع والتقنين.
ولهذا بدأ الإسلام بالمرحلة المكية – مرحلة الدعوة والتربية – قبل المرحلة المدنية، مرحلة التشريع والتنظيم، وفي هذه المرحلة نرى التشريع يمتزج بالتربية أيضاً امتزاج الجسم بالروح.
إن مجرد تغيير القوانين وحده لا يصنع المجتمع المسلم. إن تغيير ما بالأنفس هو الأساس. وأعظم ما يعين على تغيير ما بالأنفس هو الإيمان الذي ينشئ الإنسان خلقاً آخر، بما يضع له من أهداف، وما يمنحه من حوافز وضوابط، وما يرتبه على عمله من جزاء في الدنيا والآخرة.
والإسلام كل لا يتجزأ. فإذا أردنا أن نحارب جريمة مما شرعت له الحدود، فليست محاربتها بإقامة الحد فقط، ولا بالتشريع فقط، بل الحد هو آخر الخطوات في طريق الإصلاح. إن العقاب إنما هو للمنحرفين من الناس، وهؤلاء ليسوا هم الأكثرين، وليسوا هم القاعدة، بل هم الشواذ عن القاعدة.
والإسلام لم يجيء فقط لعلاج المنحرفين، بل لتوجيه الأسوياء ووقايتهم أن ينحرفوا. والعقوبة ليست هي العامل الأكبر في معالجة الجريمة في نظر الإسلام، بل الوقاية منها بمنع أسبابها هو العامل الأكبر، فالوقاية دائما خير من العلاج.
فإذا نظرنا إلى جريمة كالزنى نجد أن القرآن الكريم ذكر في شأن عقوبة الحد فيها آية واحدة في مطلع سورة النور، وهي قوله تعالى: ( الزانية والزاني، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، وتأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) ، ولكن السورة نفسها اشتملت على عشرات الآيات الأخرى التي توجه إلى الوقاية من الجريمة.
وحسبنا قوله تعالى: ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة).
وقوله سبحانه في تنظيم التزاور وآدابه، واحترام البيوت ورعاية حرماتها: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون).
ويدخل فيها آداب الاستئذان للخدم والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم: ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات، من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم).
وأهم من ذلك تربية المؤمنين والمؤمنات على خلق العفاف والإحصان، بغض البصر وحفظ الفروج، وذلك في قوله جل شأنه: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن …الآية ). وهنا برز عنصر جديد في الوقاية من الزنا وجرائم الجنس، وهو منع النساء من الظهور بمظهر الإغراء والفتنة للرجال، وإثارة غرائزهم وأخيلتهم، حتى جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) ، ثم تختم الآية بقوله سبحانه: ( وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ).
ومعنى هذا: وجوب تطهير المجتمع من أسباب الإغراء والفتنة، وسد الذرائع إلى الفساد. وأهم من ذلك كله الأمر بتزويج الأيامى من الرجال والنساء، ومخاطبة المجتمع كله بذلك، باعتباره مسؤولاً مسؤولية تضامنية: ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم).
ومسؤولية المجتمع هنا تتمثل في تيسير أسباب الارتباط الحلال، إلى جوار سد أبواب الحرام، وذلك بإزاحة العوائق المادية والاجتماعيه أمام راغبي الزواج، من غلاء المهور، والإسراف في الهدايا والدعوات والولائم والتأثيث، وما يتصل بذلك من شؤون، ومساعدتهم- مادياً وأدبياً – على تكوين بيوت مسلمة.
فليست إقامة الحد إذن هي التي تحل المشكلة، والواقع أن الحد هنا لا يمكن أن يقام بشروطه الشرعية إلا في حالة الإقرار في مجلس القضاء، أربع مرات، على ما يراه عدد من الأئمة، أو شهادة أربعة شهود عدول برؤية الجريمة رؤية مباشرة أثناء وقوعها، ومن الصعب أن يتاح ذلك. فكأن القصد هنا هو منع المجاهرة بالجريمة.
أما من ابتلى بها مستتراً فلا يقع تحت طائلة العقاب الدنيوي وأمره في الآخرة إلى الله سبحانه.