لا بأس من ذكر النكات ولكن هناك ضوابط يجب التقيد بها منها ألا يشتمل على تحقير لإنسان آخر، ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم، وأن يكون مما تقبله الفطرة السليمة.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي– رحمه الله تعالى-:
الضحك من خصائص الإنسان فالحيوانات لا تضحك؛ لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقف يراه، فيضحك منه.
ولهذا قيل: الإنسان حيوان ضاحك، ويصدق القول هنا: أنا أضحك، إذن أنا إنسان.
والإسلام -بوصفه دين الفطرة- لا يتصور منه أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلى الضحك والانبساط بل هو على العكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلى الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.
وأسوة المسلمين في ذلك هو: رسول الله -ﷺ- فقد كان -برغم همومه الكثيرة والمتنوعة- يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
يقول زيد بن ثابت، وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله -ﷺ- فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، وقال: فكل هذا أحدثكم عن رسول الله -ﷺ- ؟ (رواه الطبراني بإسناد حسن كما في مجمع الزوائد “9/17”).
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس في. (كنز العمال برقم 18400) .
وقد رأيناه في بيته -ﷺ- يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلى أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشهير في صحيح البخاري.
وكما رأينا في تسابقه مع عائشة رضي الله عنها، حيث سبقته مرة، وبعد مدة تسابقا فسبقها، فقال لها: هذه بتلك!
وقد روي أنه وطأ ظهره لسبطيه الحسن والحسين، في طفولتهما ليركبا، ويستمتعا دون تزمت ولا تحرج، وقد دخل عليه أحد الصحابة ورأى هذا المشهد فقال: نعم المركب ركبتما، فقال عليه الصلاة والسلام: “ونعم الفارسان هما”!
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: “يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز” ! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء.
وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا).(الواقعة: 35-37) والحديث أخرجه الترمذي في “الشمائل”، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي،وغيرهم، وحسنه الألباني في “غاية المرام”)
وجاء رجل يسأله أن يحمله علي بعير، فقال له عليه الصلاة والسلام: “لا أحملك إلا علي ولد الناقة” ! فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة ؟ ! -انصرف ذهنه إلى الحوار الصغير- فقال: “وهل تلد إلا النوق” ؟ (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح وأخرجه أبو داود أيضًا).
وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي -ﷺ- فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: “ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض” ؟ قالت: والله ما بعينه بياض فقال: “بلى إن بعينه بياضا” فقالت: لا والله، فقال -ﷺ-: “ما من أحد إلا بعينه بياض” (أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبيدة بن سهم الفهري مع اختلاف، كما ذكر العراقي في تخريج الإحياء). وأراد به البياض المحيط بالحدقة.
وقال أنس: كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير، وكان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يأتيهم ويقول: “يا أبا عمير ما فعل النغير” ؟ (متفق عليه). النغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عندي رسول الله -ﷺ- وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة -دقيق يطبخ بلبن أو دسم- وجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت، ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئًا منه فلطخت به وجهها، ورسول الله -ﷺ- جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئًا فمسحت به وجهي ! وجعل رسول الله -ﷺ- يضحك. (أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة وأبو يعلي بإسناد جيد كما في تخريج الإحياء).
وروي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميمًا قبيحًا، فلما بايعه النبي -ﷺ- قال: إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء -ذلك قبل أن تنزل آية الحجاب– أفلا أنزل لك عن إحداهن فتتزوجها !، وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت ؟ فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله -ﷺ- من سؤالها إياه؛ لأنه كان دميمًا. (قال الحافظ العراقي: أخرجه الزبير بن بكار في الفكاهة من رواية عبد الله بن حسن مرسلاً أو معضلاً وللدارقطني نحو هذه القصة مع عيينة بن حصن الفزاري بعد نزول الحجاب من حديث أبي هريرة).
وكان -ﷺ- يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات مثل الأعياد والأعراس.
ولما أنكر الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما، قال له “دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد” ! وفي بعض الروايات: “حتي يعلم يهود أن في ديننا فسحة”.
وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول: “دونكم يا بني أرفدة” !
وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه، وهم يلعبون ويرقصون، ولم ير في ذلك بأسًا ولا حرجًا.
واستنكر يومًا أن تزف فتاة إلى زوجها زفافًا صامتًا، لم يصحبه لهو ولا غناء، وقال: “هلا كان معها لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو، أو الغزل”. وفي بعض الروايات: “هلا بعثتم معها من تغني وتقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيونا نحييكم”.
وكان أصحاب النبي -ﷺ- ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداءً بنبيهم -ﷺ- واهتداء بهديه. حتى إن رجلاً مثل عمر بن الخطاب -على ما عرف عنه من الصرامة والشدة- يروي عنه أنه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام ! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟؟
وقد عرف بعضهم بذلك في حياته -ﷺ-، وأقره عليه، واستمر على ذلك من بعده، وقبله الصحابة، ولم يجدوا فيه ما ينكر، برغم أن بعض الوقائع المروية في ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها معظم المتدينين أشد الإنكار، وعدوا فاعلها من الفاسقين أو المنحرفين !
من هؤلاء المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلى الضحك والمزاح النعيمان بن عمر الأنصاري، رضي الله عنه، الذي رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة وغريبة.
وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدرًا وأُحدًا، والخندق، والمشاهد كلها.
روي عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة في كتاب “الفكاهة والمرح” نذكر بعضًا منها:
قال: وكان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء بها إلى النبي -ﷺ-، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها، أحضره إلى النبي -ﷺ-، قائلا: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: “أو لم تهده لي” ؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه.
وأخرج الزبير قصة أخري من طريق ربيعة بن عثمان قال: دخل أعرابي على النبي -ﷺ-، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم ؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد ! فخرج النبي -ﷺ- فقال: “من فعل هذا” ؟ فقالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلى النبي -ﷺ- حيث هو فأخرجه فقال له: “ما حملك على ما صنعت” ؟ قال: الذين دلوك على يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي.
قال الزبير أيضا: حدثني عمي عن جدي قال: كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به، الناس، المسجد المسجد، فأخذه نعيمان بن عمرو بيده، وتنحى به، ثم أجلسه في ناحية أخرى من المسجد فقال له: بل هنا قال: فصاح به الناس فقال: ويحكم، فمن أتى بي إلى هذا الموضع ؟! قالوا نعيمان، قال: أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت ! فبلغ ذلك نعيمان، فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يومًا، وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد، فقال لمخرمة: هل لك في نعيمان قال: نعم قال: فأخذه بيده حتى أوقفه على عثمان، وكان إذا صلى لا يلتفت فقال: دونك هذا نعيمان، فجمع يده بعصاه، فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به: ضربت أمير المؤمنين، فذكر بقية القصة. (ذكر هذه القصص الحافظ ابن حجر في ترجمة نعيمان من كتابه: “الإصابة” نقلاً عن كتاب الزبير بن بكار في كتابه: “الفكاهة والمرح”).
ومن الطرائف أن صحابيًا آخر من أهل الفكاهة والمزاح، استطاع أن يوقع نعيمان في بعض ما أوقع فيه غيره من “المقالب” كما في قصة سويبط بن حرملة معه، وكان ممن شهد بدرًا أيضًا، قال ابن عبد البر في “الاستيعاب” في ترجمة سويبط رضي الله عنه: وكان مزاحًا يفرط في الدعابة، وله قصة ظريفة مع نعيمان وأبي بكر الصديق -رضي الله عنهم-، نذكرها لما فيها من الظرف، وحسن الخلق.
وروي عن أم سلمة قالت: خرج أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي -ﷺ- بعام، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وكانا قد شهدا بدرًا، وكان نعيمان على الزاد، فقال له سويبط، وكان رجلاً مزاحًا، أطعمني فقال: لا حتى يجيء أبو بكر رضي الله عنه، فقال: أما والله لأغيظنك، فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبدًا ؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: إني حر، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا علي عبدي، قالوا: بل نشتريه منك، قال: فاشتروه منه بعشر قلائص، قال: فجاءوا فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً، فقال نعيمان: إن هذا يستهزئ بكم، وإني حر، لست بعبد، قالوا: قد أخبرنا خبرك فانطلقوا به، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فأخبره سويبط فأتبعهم، فرد عليهم القلائص، وأخذه، فلما قدموا على النبي -ﷺ- أخبروه قال: فضحك النبي -ﷺ- وأصحابه منها حولاً أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة. وأخرجه أبو داود الطيالسي والروياني فجعلا المازح هو النعيمان والمبتاع سويباطًا، كما في ترجمته في “الإصابة”).
موقف المتشددين:
ولا ريب أن هناك من الحكماء والأدباء والشعراء من ذم المزاح، وحذر من سوء عاقبته، ونظر إلى جانب الخطر والضرر فيه، وأغفل الجوانب الأخرى.
قال بعضهم: المزاح مجلبة للبغضاء، مثلبة للبهاء، مقطعة للإخاء، وقيل: إذا كان المزاح أول الكلام كان آخره الشتم واللكام، وسئل الحجاج بن الفرية عن المزاح فقال: أوله فرح، وآخره ترح، وهو نقائص السفهاء مثل نقائص الشعراء، والمزاح فحل لا ينتج إلا الشر.
وقال مسعر بن كدام:
أما المزاحة والمراء فدعهما خلقان لا أرضاهما لصديق
وقيل:
لا تمازح صغيرًا فيجترئ عليك، ولا كبيرًا فيحقد عليك !
ونحوه قول الشاعر:
فإياك إياك المزاح فإنه يجرئ عليك الطفل والدنس النذلا
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر، وقيل: المزاح يبدي المهانة ويذهب المهابة، والغالب فيه واتر، والمغلوب ثائر.
وقيل: احذر فلتات المزاح فسقطة الاسترسال لا تقال.
ولكن ما جاء عن الرسول -ﷺ- وأصحابه أحق أن يتبع، وهو يمثل التوازن والاعتدال.
وقد قال لحنظلة حين فزع من تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله -ﷺ-، واتهم نفسه بالنفاق: “يا حنظلة لو دمتم على الحال التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن يًا حنظلة ساعة وساعة”، وهذه هي الفطرة، وهذا هو العدل.
روي ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله -ﷺ- متحزقين ولا متماوتين. كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون. (المصنف لابن أبي شيبة 8/711 بلفظ “منحرفين” بدل “متحزقين” والتصويب من غريب الحديث للخطابي 3/49).
والتحزق كما يقول الإمام الخطابي: التجمع وشدة التقبص.
وفي النهاية لابن الأثير: متحزقين: أي منقبضين ومجتمعين.
وسئل ابن سيرين عن الصحابة: هل كانوا يتمازحون ؟ فقال: ما كانوا إلا كالناس. كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر. (رواه أبو نعيم في: الحلية 2/275).
وبهذا يكون موقف أولئك النفر من المتدينين أو المتحمسين للدين، وعبوسهم وتجهمهم على من يمزح، لا يمثل حقيقة الدين في شيء، ولا يتفق مع هدي الرسول الكريم وأصحابه.
إنما يرجع إلى سوء فهمهم للإسلام، أو لطبيعتهم الشخصية، أو لظروف نشأتهم وتربيتهم.
وعلى كل حال، لا يجهل مسلم أن الإسلام لا يؤخذ من سلوك فرد أو مجموعة من الناس، يخطئون ويصيبون. والإسلام حجة عليهم، وليسوا هم حجة علي الإسلام، إنما يؤخذ الإسلام من القرآن والسنة الثابتة.
تفسير النصوص الموهمة لخلاف ذلك:
وأما النصوص الدينية، والتي فهم منها من فهم أن الإسلام يدعو إلى الحزن والاكتئاب والتجهم، فأود أن ألقي بعض الضوء عليها حتى لا نسيء فهمها، ونخرجها عن الإطار الذي أريد بها.
فقوله تعالى على لسان قوم قارون له ناصحين: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) لا يفهم منه ذم الفرح بإطلاق، بل الفرح المراد هنا -كما يدل عليه السياق- هو فرح الأشر والبطر والغرور والانتفاخ الذي ينسي صاحبه فضل الله عليه، وينسب كل فضل إلى نفسه، فهو فرح بغير الحق، كذلك الذي ذم به القرآن المشركين حين قال لهم بعد دخولهم النار: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون). (غافر: 75).
وهو أشبه بفرح الذين سألهم النبي -ﷺ- من اليهود عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وخرجوا من عنده فرحين بما صنعوا من الكتمان والكذب ولم يكتفوا بذلك، بل طلبوا الحمد على أنهم سئلوا فأجابوا بالحقيقة وفيهم نزل قوله تعالي: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم). (آل عمران: 188).
ومثل ذلك فرح الذين غرهم علمهم المادي، فوقفوا عنده، ورفضوا ما جاء به الوحي، وفيهم جاء قول الله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون). (غافر: 83).
وقوله -ﷺ-: “لا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب” فالحديث واضح الدلالة على أن المنهي عنه ليس مجرد الضحك، بل كثرته، وكل شيء خرج عن حده انقلب إلى ضده.
وأما وصفه -ﷺ- “بأنه متواصل الأحزان” فالحديث ضعيف، والضعيف لا تقوم به حجة.
ويعارضه الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، أنه كان -ﷺ- يستعيذ بالله من الهم والحزن.
على أن ذلك الحديث لو صح لأمكن تأويله أنه كان يمسي ويصبح وهو مشغول بهموم دعوته، وهموم أمته، وما أكثرها.
ولكنه مع هذا لم يضق قلبه الكبير عن المزاح والمداعبة، وإعطاء الفطرة حقها، والناس حقوقهم، وهذه هي الإنسانية الكاملة، والأسوة المثلي.
حدود المشروعية في الضحك والمزاح:
الضحك والمرح والمزاح أمر مشروع في الإسلام، كما دلت على ذلك النصوص القولية، والمواقف العملية للرسول الكريم -ﷺ- وأصحابه -رضي الله عنهم-.
وما ذلك إلا لحاجة الفطرة الإنسانية إلى شيء من الترويح يخفف عنها لأواء الحياة وقسوتها، وتشعب همومها وأعبائها.
وفي هذا قال الإمام علي رضي الله عنه: “إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة”.
وقال: “روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلب إذا أكره عمي” !
كما أن هذا الضرب من اللهو والترفيه يقوم بمهمة التنشيط للنفس، حتى تستطيع مواصلة السير والمضي في طريق العمل الطويل، كما يريح الإنسان دابته في السفر، حتى لا تنقطع به.
وفي هذا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: “إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لها على الحق”.
فمشروعية الضحك والمرح والمزاح لا شك فيها في الأصل، ولكنها مقيدة بقيود وشروط لابد أن تراعي:
أولها: ألا يكون الكذب والاختلاق أداة الإضحاك للناس: كما يفعل بعض الناس في أول إبريل -نيسان- فيما يسمونه “كذبة إبريل”.
ولهذا قال -ﷺ-: “ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له”.
وقد كان -ﷺ- يمزح ولا يقول إلا حقًا.
ثانيًا: ألا يشتمل على تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي:
قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان). (الحجرات: 11).
وجاء في الحديث الصحيح: “بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم” رواه مسلم.
وذكرت عائشة أمام النبي -ﷺ- إحدى ضرائرها، فوصفتها بالقصر تعيبها به، فقال: “يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته” قالت: وحكيت له إنسانًا -أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك- فقال: “ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا”. (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح).
ثالثا: ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم:
فقد روي أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد -ﷺ-، أنهم كانوا يسيرون مع النبي -ﷺ- فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع فقال رسول الله -ﷺ-: “لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا”.
وعن النعمان بن بشير قال: كنا مع رسول الله -ﷺ- في مسير، فخفق رجل على راحلته -أي نعس- فأخذ رجل سهمًا من كنانته فانتبه الرجل، ففزع، فقال رسول الله: “لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا” رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات. والسياق يدل على أن الذي فعل ذلك كان يمازحه.
وقد جاء في الحديث الآخر: “لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادا” رواه الترمذي وحسنه.
رابعًا: ألا يهزل في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء: فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال. والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب.
ومن ممادح الشعراء:
إذا جد عند الجد أرضاك جده وذو باطل إن شئت ألهاك باطله !
والباطل هنا يقصد به اللهو والمرح.
وقال آخر:
أهازل حيث الهزل يحسن بالفتى وإني إذا جد الرجال لذو جد !
وروي الأصمعي أنه رأى إمراة بالبادية تصلي على سجادتها خاشعة ضارعة فلما فرغت، وقفت أمام المرآة تتجمل وتتزين، فقال لها: أين هذه من تلك ؟
فأنشدت تقول:
ولله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب !
قال: فعرفت أنها امرأة عابدة لها زوج تتجمل له.
وقد قال أبو الطيب:
ووضع الندي في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
وفي الحديث: “ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق”.
وقد عاب الله تعالى على المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم أن يبكوا، فقال تعالى: (أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون). (النجم: 59-61).
وعاب على المنافقين فرحهم وضحكهم لتخلفهم عن رسول الله -ﷺ- في غزوة تبوك وافتعالهم الأعذار الكاذبة للقعود مع الخوالف، فقال تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا جزاء بما كانوا يكسبون). (التوبة: 81، 82).
خامسًا: أن يكون ذلك بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل:
والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء، ولو في العبادة، فكيف باللهو والمرح ؟!
ولهذا كان التوجيه النبوي: “ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب” فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة.
وقد ورد عن علي رضي عنه قوله: “أعط الكلام من المزح، بمقدار ما تعطي الطعام من الملح”.
وهو قول حكيم، يدل علي عدم الاستغناء عن المزح، كما يدل علي ضرر الإفراط فيه.
والمبالغة هي التي يخشي من ورائها الإلهاء عن الأعباء، أو تجريء السفهاء، أو إغضاب الأصدقاء، ولعل هذا المراد من حديث “لا تمار أخاك ولا تمازحه” رواه الترمذي.
فالمبالغة في المزاح كالمماراة، كلتاهما تؤدي إلى إيغار الصدور.
وقال سعيد بن العاص لابنه: “اقتصد في مزاحك، فالإفراط فيه يذهب البهاء، ويجريء عليك السفهاء، وتركه يقبض المؤانسين، ويوحش المخالطين”.
وخير الأمور هو الوسط دائمًا وهو نهج الإسلام وخصيصته الكبري، ومناط فضل أمته علي غيرها. وهو الصراط المستقيم الذي ندعو الله أن يهدينا إليه، ويثبتنا عليه في الأقوال والآراء والأعمال والمواقف، اللهم آمين.