قصر الصلاة الرباعية رخصة للمسافر، وعند جمهور الفقهاء لا يجوز للمسافر قصر الصلاة إلا بالشروع في السفر ولا تكفي النية، وخالف في ذلك بعض فقهاء السلف فقالوا يجوز القصر بمجرد انعقاد النية على السفر.

يقول فضيلة الدكتور محمود عبد الله العكازي -أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر-:

فقد رخص الله تعالى القصر والجمع في السفر فقال تعالى: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ) النساء : 101، بمعنى أن المسافر مخير بين الصلاة تامة أو مقصورة على سبيل التخفيف، فقد روى مسلم في صحيحه وأصحاب السنن أن يعلى بن أمية ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا” فقد آمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه، فسألت النبي ـ صلى الله عليه سلم ـ عن ذك فقال: “صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته”، وفي رواية لابن حبان: “فاقبلوا رخصته”، فدل ذلك على أن القصر في السفر صدقة من الله، والصدقة هي الرخصة.

والمراد بالصلاة التي تقصر في السفر هي: الصلاة الرباعية، وذلك لا يكون إلا في صلاة الظهر والعصر والعشاء، أما الصبح والمغرب فلا يقصر أي واحد منهما بإجماع العلماء، فالقصر جائز في السفر الطويل الذي يكون أكثر من خمس وثمانين كيلو مترا.

ويبتدئ قصر الصلاة وجمعها إذا جاوز المسافر عمران البلد، فإذا جاوزه فإنه يكون مسافرا، وأما ما دام في بلده فهو ناوٍ للسفر وليس مسافرا فلا يجوز له القصر ولا الجمع؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقصر إلا بعد خروجه من المدينة على بعد ستة أميال أو سبعة، وهذا يفيد أن المسافر لا يجوز له القصر إلا إذا خرج مسافرا وباشر السفر بالفعل من بلده.
ويدخل في ذلك جمع التقديم والتأخير على حد سواء لما روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: “كان النبي ـ صلى الله عليه سلم ـ إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس -أي تميل- أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت صلى الظهر ثم ركب”، وهذا بالنسبة لجواز جمع التأخير.

وأما بالنسبة لجواز جمع التقديم فدليله لما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن معاذ أن رسول الله ـ صلى الله عليه سلم ـ كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصلها جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصلها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب.

فقد روى ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: “كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير، أي أسرع به السير”، ويعتمد على جواز الجمع بين الصلاة تقديما وتأخيرا، وعلى أنه يشترط في جواز الجمع بين الصلاتين السير، ويكون ذلك بعد خروجه من بلده.
وبناء عليه فلا يجوز القصر بنية السفر بل يكون بالتلبس بالسفر بالفعل. انتهى.

وجاء في كتاب المغني لابن قدامة –الحنبلي-:
ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته, ويجعلها وراء ظهره . وبهذا قال مالك, والشافعي, والأوزاعي, وإسحاق, وأبو ثور, وحكي ذلك عن جماعة من التابعين.
وحكي عن عطاء , وسليمان بن موسى, أنهما أباحا القصر في البلد لمن نوى السفر . . وعن الحارث بن أبي ربيعة , أنه أراد سفرا , فصلى بهم في منزله ركعتين, وفيهم الأسود بن يزيد , وغير واحد من أصحاب عبد الله .
وروى عبيد بن جبر, قال: (كنت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط, في شهر رمضان, فدفع, ثم قرب غذاؤه, فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة, ثم قال: اقترب، فقلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل) . رواه أبو داود .

ولنا, قول الله تعالى: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ) ولا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج , وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ القصر إذا خرج من المدينة . قال أنس: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا , وبذي الحليفة ركعتين). متفق عليه, فأما أبو بصرة فإنه لم يأكل حتى دفع, وقوله: لم يجاوز البيوت : معناه – والله أعلم – لم يبعد منها ; بدليل قول عبيد له: ألست ترى البيوت ؟ إذا ثبت هذا ; فإنه يجوز له القصر وإن كان قريبا من البيوت .

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم, أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها.
وروي عن مجاهد, أنه قال: إذا خرجت مسافرا فلا تقصر الصلاة يومك ذلك إلى الليل, وإذا رجعت ليلا فلا تقصر ليلتك حتى تصبح. ولنا قول الله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة). وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من المدينة لم يزد على ركعتين حتى يرجع إليها. وحديث أبي بصرة, وقال عبد الرحمن الهمذاني: خرجنا مع علي رضي الله عنه مخرجه إلى صفين, فرأيته صلى ركعتين بين الجسر وقنطرة الكوفة. وقال البخاري: خرج علي فقصر , وهو يرى البيوت , فلما رجع قيل له : هذه الكوفة . قال : لا حتى ندخلها . ولأنه مسافر , فأبيح له القصر , كما لو بعد.