جمهور الفقهاء يذهبون إلى أن المسلم لا يرث الكافر،كما أن الكافر لا يرث المسلم،وأن اختلاف الملة أو الدين مانع من الميراث.واستدلوا بالحديث المتفق عليه: “لا يرث المسلم الكافر،ولا الكافر المسلم”
والحديث الآخر”لا يتوارث أهل ملتين شتى”رواه أحمد وأبو داود.
وهذا الرأي مروي عن الخلفاء الراشدين،وإليه ذهب الأئمة الأربعة،وهو قول عامة الفقهاء،وعليه العمل كما قال ابن قدامة.
وروي عن عمر ومعاذ ومعاوية رضي الله عنهم:أنهم ورّثوا المسلم من الكافر،ولم يورثوا الكافر من المسلم.وحُكي ذلك عن محمد بن الحنفية،وعلي بن الحسين،وسعيد بن المسيب،ومسروق،وعبدالله بن معقل والشعبي،ويحيى بن يعمر،وإسحاق.
ورُوي أن يحيى بن يعمر اختصم إليه أخوان:يهودي ومسلم،في ميراث أخ لهما كافر،فورَّث المسلم،واحتج لقوله بتوريث المسلم من الكافر،فقال:حدثني أبو الأسود أن رجلا حدثه،أن معاذًا حدثه أن رسول الله ﷺ قال:”الإسلام يزيد ولا ينقص” يعني:أن الإسلام يكون سببًا لزيادة الخير لمعتنقه،ولا يكون سبب حرمان ونقص له.
ويمكن أن يذكر هنا أيضًا حديث”الإسلام يعلو ولا يعلى”
وكذلك لأننا ننكح نساءهم،ولا ينكحون نساءنا،فكذلك نرثهم ولا يرثوننا.
ونحن نرجح هذا الرأي،وإن لم يقل به الجمهور،وأرى أن الإسلام لا يقف عقبة في سبيل خير أو نفع يأتي للمسلم،يستعين به على توحيد الله تعالى وطاعته ونصرة دينه الحق،والأصل في المال أن يرصد لطاعة الله تعالى لا لمعصيته،وأولى الناس به هم المؤمنون،فإذا سمحت الأنظمة الوضعية لهم بمال أو تركة، فلا ينبغي أن نحرمهم منها،وندعها لأهل الكفر يستمتعون بها في أوجه قد تكون محرمة أو مرصودة لضررنا.
وأما حديث”لا يرث المسلم الكافر،ولا الكافر المسلم”فنؤوله بما أول به الحنفية حديث”لا يقتل مسلم بكافر”وهو أن المراد بالكافر:الحربي،فالمسلم لا يرث الحربي ـ المحارب للمسلمين بالفعل ـ لانقطاع الصلة بينهما.
ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم:
هذا، وقد عرض الإمام ابن القيم لهذه القضية – ميراث المسلم من الكافر – في كتابه (أحكام أهل الذمة) وأشبع القول فيها، ورجح هذا القول، ونقل عن شيخه ابن تيمية ما كفى وشفى. قال رحمه الله:
(وأما توريث المسلم من الكافر فاختلف فيه السلف، فذهب كثير منهم إلى أنه لا يرث كما لا يرث الكافر المسلم: وهذا هو المعروف عند الأئمة الأربعة وأتباعهم. وقالت طائفة منهم: بل يرث المسلم الكافر، دون العكس. وهذا قول معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين (أبو جعفر الباقر) وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله بن مغفل، ويحي بن يعمر، وإسحاق بن راهويه. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
قالوا: نرثهم ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا.
والذين منعوا الميراث: عمدتهم الحديث المتفق عليه:” لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم”. وهو عمدة من منع ميراث المنافق الزنديق، وميراث المرتد. قال شيخنا (يعني: ابن تيمية): وقد ثبت بالسنة المتواترة أن النبي ﷺ كان يجرى الزنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين، فيرثون ويورثون. وقد مات عبد الله بن أبيّ وغيره ممن شهد القرآن بنفاقهم، ونُهي الرسول ﷺ عن الصلاة عليه والاستغفار له، ووَرِثَهم وَرثَتهم المؤمنون: كما ورث عبد الله بن أبيّ ابُنه، ولم يأخذ النبي ﷺ من تركة أحد من المنافقين شيئًا، ولا جعل شيئًا من ذلك فيئًا، بل أعطاه لورثتهم وهذا أمر معلوم بيقين.
فعلم أن الميراث: مداره على النصرة الظاهرة لا على إيمان القلوب والموالاة الباطنة. والمنافقون في الظاهر ينصرون المسلمين على أعدائهم، وإن كانوا من وجه آخر يفعلون خلاف ذلك. فالميراث مبناه على الأمور الظاهرة لا على ما في القلوب.
وأما المرتد فالمعروف عن الصحابة مثل علي وابن مسعود: أن ماله لورثته من المسلمين أيضًا. ولم يدخلوه في قوله (ﷺ): “لا يرث المسلم الكافر”. وهذا هو الصحيح.
وأما أهل الذمة، فمن قال بقول معاذ ومعاوية ومن وافقهما يقول: قولُ النبي ﷺ : ” لا يرث المسلم الكافر” المراد به الحربي لا المنافق، ولا المرتد، ولا الذمي: فإن لفظ (الكافر) – وإن كان قد يعم كل كافر، فقد يأتي لفظه والمراد به بعض أنواع الكفار، كقوله تعالى:{إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا} فهنا لم يدخل المنافقون في لفظ (الكافرين). وكذلك المرتد، فالفقهاء لا يدخلونه في لفظ (الكافر) عند الإطلاق. ولهذا يقولون: إذا أسلم الكافر لم يقض ما فاته من الصلاة، وإذا أسلم المرتد ففيه قولان.
وقد حمل طائفة من العلماء قول النبي ﷺ:” لا يقتل مسلم بكافر” على الحربي دون الذمي؛ ولا ريب أن حمل قوله:” لا يرث المسلم الكافر” على الحربي أولى وأقرب محملاً، فإن في توريث المسلمين منهم ترغيبًا في الإسلام لمن أراد الدخول فيه من أهل الذمة، فإن كثيرًا منهم يمنعهم من الدخول في الإسلام خوف أن يموت أقاربهم ولهم أموال فلا يرثون منهم شيئًا. وقد سمعنا ذلك من غير واحد منهم شفاهًا؛ فإذا علم أن إسلامه لا يسقط ميراثه ضعف المانع من الإسلام و(صارت) رغبته فيه قوية. وهذا وحده كافٍ في التخصيص. وهم يخصون العموم بما هو دون ذلك بكثير، فإن هذه مصلحة ظاهرة يشهد لها الشرع بالاعتبار في كثير من تصرفاته؛ وقد تكون مصلحتها أعظم من مصلحة نكاح نسائهم، وليس هذا مما يخالف الأصول، فإن أهل الذمة إنما ينصرهم ويقاتل عنهم المسلمون ويفتدون أسراهم، والميراث يستحق بالنصرة، فيرثهم المسلمون، وهم لا ينصرون المسلمين فلا يرثونهم: فإن أصل الميراث ليس هو بموالاة القلوب؛ ولو كان هذا معتبرًا فيه كان المنافقون لا يرثون ولا يورثون. وقد مضت السنة بأنهم يرثون ويورثون.)انتهى
ويمكن اعتبار هذا الميراث من باب الوصية من الأب المتوفَّى لولده،والوصية من الكافر للمسلم،ومن المسلم للكافر غير الحربي:جائزة بلا إشكال،وعندهم يجوز للإنسان أن يوصي بماله كله،ولو لكلبه!فلابنه أولى.