لا يلزم أحدا أن يتبع مذهبا واحدا في كل فروعه بحيث لا يخرج عنه ، لكن المسلم إذا كان مجتهدا وأداه اجتهاده إلى الرضا بمذهب معين بعد الموازنة والترجيح بين المذاهب فهذا له لأن هذا يكون نوعا من الاجتهاد ، أما العامي فمذهبه مذهب من يفتيه ، وعلى العامي أن يسأل من يثق في علمه وأمانته فيستفتيه، وليس عليه أكثر من ذلك، والخلافات الفقهية مهما كان بينها من تباين وتضارب ليس معناها أن أحد القولين خطأ، وأن الأخر صواب بمعنى أن يأثم من اتبع أحد القولين، وينجو الآخر.
ولكن الذي قررته الشريعة أن كل مجتهد مأجور سواء أخطأ أم أصاب غير أن من أخطأ أصاب أجرا واحدا، ومن أصاب كان له أجران.
ولذلك لما اختلف الصحابة حينما أمرهم النبي ﷺ أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فصلى فريق في الطريق ، وحملوا كلام النبي على حثه على السرعة، بينما أخر الفريق الآخر العصر فلم يصلوها إلا في بني قريظة بعد المغرب، وحملوا الأمر على حرفيته، لم يعاتب النبي ﷺ أحدا من الفريقين، وإن كان أحد الفريقين قد أخطأ، وذلك لأنهم بذلوا ما في وسعهم وهو الاجتهاد، وليس عليهم أكثر من ذلك.
على أن بعض الفقهاء يرى أن حكم الله في القضية ليس واحدا، وأن كل ما توصل إليه المجتهدون هو حكم الله، وإن اختلفت هذه الآراء فيما بينها.
والخلاصة أن العامي الذي ليس من أهل الاجتهاد عليه أن يستفتي متن يثق في علمه وأمانته، وليس عليه أكثر من ذلك.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي :-
لا يلزم المسلم أن يتبع مذهبًا معينًا من المذاهب الأربعة أو غيرها؛ لأن اللازم شرعًا: ما أّلْزَم به الله ورسوله في الكتاب والسنة، ولم يُلزم الله ولا رسوله باتباع أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، أو جعفر أو زيد، أو غيرهم، فمن التزم بمذهب أحدهم فقد ألزم نفسه ما لا يلزم، وضيَّق على نفسه في أمر وسَّع الله فيه، وخصوصًا إذا كان من أهل العلم، ويمكنه أن يبحث عن الحكم بدليله.
فلا ينبغي لمثله أن يرضى بالتقليد، فقد أجمع العلماء المتقدمون على أن (العلم) هو معرفة الحق بدليله، وأن التقليد المطلق ليس علمًا!
وإذا بحث العالم المستقل في أصول المذاهب ووازن بينها، وارتضى أصول مذهب معين؛ لأنه رآها أصوب وأرجح، فلا حرج عليه في ذلك، ولا يكون مقلِّدًا لإمام ذلك المذهب، بل وافق اجتهاده اجتهاد ذلك الإمام، وقد يدع مذهبه إلى غيره في بعض المسائل إذا أعوزه الدليل.
والأصل : أن العامي لا مذهب له، إنما مذهبه مذهب من يفتيه من العلماء الذين يسألهم، فقد يسأل في قضية زيدًا، وفي أخرى عَمرًا، وفي ثالثة بَكرًا، وهذا ما كان عليه الناس في عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم، يسألون فيما يَعِنُّ لهم من أمور: مَن تيسَّر لهم من ثقات العلماء، ولا يلتزمون بواحد فقط، يخُصُّونه بالسؤال دون غيره، ولهذا لم يُعرف (التمذهب) في عصرهم ـ رضي الله عنهم ـ وهم القوم الذين يُقتدى بهم فيُهتدى، فهم خير قرون الأمة على الإطلاق، كما صحَّت بذلك الأحاديث.
وإنما كان العامي لا مذهب له؛ لأن اختيار مذهب معين يقتضي معرفة أصوله، والموازنة بينها وبين أصول غيره، وترجيحها على سواها، وهذه المعرفة والموازنة والترجيح لا يملكها العامي، إنما يملكها العالِم الذي بلغ قدرًا من النظر والاختيار، وعنده أهلية الترجيح.
وقد يُقبل من الشخص العامي أن يتبع مذهبًا من مذاهب الأئمة المعروفين إذا لم يجد في بلده غيره، كأن ينشأ في بلد كل أهله حنفية أو مالكية أو شافعية، أو حنبلية، فيتمذهب بمذهب علماء أهل بلده، على ألا يتعصب له بالحق وبالباطل، وإذا نصحه ناصح أمين من ثقات العلماء: أن مذهبه ضعيف في هذه المسألة، واطمأن إليه قلبه، فلا حرج عليه أن يدع مذهبه في هذه القضية، ويأخذ بالمذهب الراجح، وهذا ما يَسُرُّ إمامه الذي يدّعي اتباعه.
ولا يجوز لمن قلد مذهبًا معتبَرًا أن يذم المذاهب الأخرى أو يطعن في أئمتها، فكلهم مجتهدون في معرفة الحق، والوصول إلى الصواب بقدر الاستطاعة وبذل الجهد، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وهذا من فضل الله، كما أنهم جميعًا أئمة في تقوى الله تعالى، وفي الغيرة على الإسلام، والشجاعة في الحق، وإيثار الآخرة على الأولى، كما تشهد بذلك سِيَرهم ومواقفهم رضي الله عنهم.