الحضارة الغربية فيها الخير والشر ، وأخذ الخير منها لا يمنع منه الإسلام ، بل ربما يكون واجبا ، إذا كان نفعه عائدا على المسلمين ، ولم يناقض الشرع .
وقد جنحت الحضارة الغربية نحو المادية والنفعية وشهد بذلك مفكروها وعلماؤها ، والبشرية اليوم بحاجة لحضارة تجمع بين العلم والروح ، وهو ما يتمثل في الحضارة الإسلامية ، ويمكن للحضارات أن تتواصل لخدمة البشرية بما لا يخالف شرعنا .
يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي : .
–نأخذ خير الحضارة الغربية ونتجنب شرها :
الحضارة الغربية لا تأخذ حكما واحدا، فهي مفهوم مركب من عناصر عدة، فلا عجب أن يكون فيها جوانب إيجابية تثمر خيرا، كما فيها جوانب سلبية تنتج شرا. وموقفي هنا ـ وهو موقف كل مسلم، بل كل عاقل ـ أن أحتفي بالخير، وأرحب به، وأستفيد منه، وأن أتجنب الشر، وأحذر منه.
–بضاعتنا ردت إلينا :
ففي الحضارة الغربية نجد جانب العلم بتصنيفاته المختلفة (التكنولوجية والصناعية) وهذا يجب علينا أن نستفيد منه، لأنه عالمي بطبيعته، بل هو في أصله مقتبس من الحضارة الإسلامية التي منحت أوربا المنهج العلمي والتجريبي، الذي أخذه علماؤهم من المسلمين، كما شهد بذلك مؤرخو العلم أمثال غوستاف لوبون، وجورج سارتون وغيرهم. فهي في الواقع بضاعتنا ردت إلينا.
–تنمية الغرب للحضارة :
ولكن لا ننكر ـ ولا يجوز لنا ـ أن الغرب نمّى ما اقتبسه من المسلمين وطوره حتى صار شيئا هائلا، وانتهى إلى الثورات التكنولوجية والبيولوجية والإلكترونية والفضائية والاتصالاتية والمعلوماتية. وهي وثبات هائلة، حققت في أواخر القرن العشرين ما لم تصل إليه البشرية في عشرات القرون.
وهذه كلها مكاسب للبشر جميعا، مسيحيين كانوا أم مسلمين أم وثنيين أم ملحدين.
–عيوب الحضارة الغربية :
والمهم: فيم تستخدم هذه الثورات العلمية كلها؟ في البناء أم في الهدم؟ في الحق أم في الباطل؟ في الإحياء أم في القتل؟
لهذا كان من المهم أن نربط الحضارة بأهداف إيمانية عظمى، ومثل أخلاقية عليا، تضبط سلوك الإنسان، وتجعله يستخدم إمكاناته في إصلاح البشرية.
–ولكن مما يعاب على الحضارة الغربية عدة أمور:
أولا:اتجاهها المادي الحسي، واحتقارها للغيبيات وكل ما وراء المادة، وانشغالها بالدنيا وملذاتها على حساب الآخرة، وبالمادة على حساب الروح، وإهمالها لأمر الدين وضرورته للحياة. وسر ذلك ـ كما يقول محمد أسد ” فيلسوف مسلم ” ـ يرجع إلى أمرين:
1ـ الأصول اليونانية والرومانية للحضارة الغربية، وما غلب عليها من نزعة مادية.
2ـ احتقار النصرانية للحياة الدنيا وللمال والحياة الزوجية وغيرها، فلما ثاروا عليها وعلى رجالها، تبنوا نقيض اتجاهها. ولذا قال محمد أسد : إن الحضارة الغربية لا تجحد (الله) في صراحة وقطع، ولكنك لا تجد في نظامها الحالي مكانا لـ (الله) أو أي حاجة إليه.
ثانيا:الاتجاه النفعي في أخلاقيات الحضارة الغربية، ففلسفة اللذة والمنفعة الفردية الحسية العاجلة، هي التي تحرك الأفراد والجماعات.
أما النزعة الأخلاقية، والأدبية، والضمير الحي، فليس لها أدنى وزن، ومن هنا راجت فلسفة الإباحية. حتى استباح الغربيون الزنى والشذوذ الجنسي أو ( الفواحش ما ظهر منها وما بطن) مع أن المسيح الذي يزعمون أنهم يؤمنون به يقول: ” من نظر بعينه فقد زنى “. فكيف أطلقوا العنان للجنسين يستمتع أحدهما بالآخر، بلا عقد ولا رباط مقدس؟ وكيف استباحوا زواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء؟
ثالثا: نجد في الحضارة الغربية: نزعة استعلاء كامنة في أعماقها، كأنما أخذتها من اليهود الذين يزعمون: أنهم ـ وحدهم ـ شعب الله المختار، وأن أوربا هي أم الدنيا، وأن الجنس الأبيض هو سيد العالم، وأنه يَفضُل جميع الأجناس.
وهذه كلها أباطيل، لم تقم على أساس من منطق أو علم، والإسلام يرفض هذه المقولات، وينظر إلى البشرية على أنها أسرة واحدة، تشترك جميعا في العبودية لله، والبنوة لآدم، كما قال النبي -ﷺ-: ” أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب .
–الحضارة الغربية تؤثر الدنيا على الدين :
إننا نعيب على الحضارة الغربية: أنها غلبت المادة على الروح، والكم على الكيف، والمنفعة على الأخلاق، والجماد على الإنسان، ومتعة الجسد على سكينة النفس، وبعبارة مجملة: آثرت الدنيا على الدين.
–مفكرو الغرب المنصفين ينتقدون الحضارة الغربية :
وإن كثيرا من المفكرين الغربيين المنصفين، قد شاركونا نقد الحضارة الغربية من داخلها، حرصا عليها، وخوفا على مستقبلها: من الإفراط في المادية، والإسراف في الإباحية، والغلو في الأنانية، والاستخفاف بالآخرين.
رأينا ذلك في نقد “شبنجلر” في كتابه (تدهور الغرب) و”إلكسيس كاريل” في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) و”كولن ولسون” في كتابه (سقوط الحضارة) و”روجيه جارودي” في كثير من مقالاته وكتبه، التي وصفه فيها تلك الحضارة بأنها لا تقوم على وحدانية الله، بل على وحدانية السوق، وأنها امتلكت (العلم) ولكنها لم تمتلك (الحكمة) وقد سماها (الحضارة الفرعونية) أي المتألهة في الأرض.
–حاجة البشرية لحضارة الإسلام المتوازنة :
وأعتقد أن البشرية اليوم في حاجة إلى حضارة متوازنة متكاملة: تعطيها الدين ولا تفقدها العلم. وتمنحها الإيمان، ولا تسلبها العقل، وتهبها الروح، ولا تحرمها المادة، وتذكرها بالآخرة، ولا تحرّم عليها الدنيا، وتعطيها الحق ولا تمنعها القوة، وتصلها بالسماء، ولا تنزعها من الأرض، وتلك هي حضارة الإسلام إذا فهمت على وجهها الصحيح، وأخذت من منابعها الصافية، لا من واقع المسلمين المؤسف، الذي بعد كثيرا عن حقائق الإسلام فهما وتطبيقا.
–تواصل الحضارات :
ومع هذا الاختلاف في التوجه بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية: لا أقول بحتمية صراع الحضارات، فيمكن للحضارات أن تتفاهم، وأن تتعايش وتتحاور، وأن ينفع بعضها بعضا، ويأخذ بعضها من بعض أفضل ما عنده.
وخصوصا أن في داخل حضارة الغرب فلاسفة ومفكرين وعلماء وأدباء وفنانين ينقدونها، ويدقون أجراس الإنذار، محذرين من تجاوزاتها، ولا سيما المادية المجحفة، والإباحية المسرفة. وهذا ما يتيح لهذه الحضارة أن تصلح كثيرا من أخطائها بنفسها.