هناك غسل يجب على الرجال والنساء جميعا، وهو غسل الجنابة، ومثله غسل الميت.

وهناك غسل يجب على المرأة فقط، وهو غسل الحيض عند انتهاء دورتها الشهرية، وغسل النفاس، بسبب الولادة إذا انقطع الدم عنها.

غسل الجنابة وبماذا يجب؟:

وغسل الجنابة هو الذي أمر الله تعالى به في كتابه حين قال: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ) المائدة: 6.

وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي

سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) النساء: 43.

والجنب: الذي أصابته الجنابة، وهي الحدث الذي ينشأ من استخدام الغريزة الجنسية، كما سنرى. والجنب في اللغة البعيد، وسمي جنبا: لمجانبة الماء (المني) محله. أو لمجانبته للناس حتى يتطهر، أو لمجانبته المسجد والصلاة حتى يغتسل.

وغسل الجنابة يجب بعدة أشياء:

أولها: خروج المني الدافق بلذة من الرجل أو المرأة في اليقظة أو النوم. سواء كان ذلك بسبب الجماع أو الاحتلام أو المداعبة أو الاستمناء أو النظر أو التفكير في الناحية الجنسية، وسواء كان السبب حلالا أم حراما.

وذلك لما روى الشيخان عن أم سليم، قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله : “نعم، إذا هي رأت الماء” متفق عليه.

وماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر.

وأما إذا احتلم الرجل أو احتلمت المرأة، ولم ينزل ماء، أو لم ير بللا يدل على ذلك: فلا غسل. فالمدار على البلل وجودا وعدما، وأن يعلم أن البلل هو مني وليس مذيا.

أما إذا نزل المني بغير شهوة، لمرض أو بَرْد، أو غير ذلك، فلا غسل عليه.

وقد اختلفوا فيما إذا أحس بتحرك المني من ظهره، ولم ينزل إلى الخارج، إذا أمسك ذكره، فلم يخرج. فمنهم من أوجب فيه الغسل، ومنهم من لم يوجبه.

والذي نميل إليه: أنه يوجب الغسل، ما دام قد أحس باللذة والنشوة، وقد يتأخر الإنزال، أو لا يحس به تماما، لقلة الماء النازل، وقد علق الحكم على مظنته، وهو الإحساس بالشهوة، إذ بعد انتقاله وتحركه يبعد عدم خروجه.

والثاني:الجماع، ويعبر عنه الفقهاء بـ (التقاء الختانين): أي ختان الرجل، وختان المرأة. ويراد بالتقائهما: تغييب حشفة الرجل في فرج، قبلا كان أو دبرا. وإن لم ينزل.

ودليل ذلك: الحديث الصحيح الذي روته عائشة: “إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان: فقد وجب الغسل” وفي رواية لمسلم: “وإن لم ينزل.

وكذلك حديث أبي هريرة: المتفق عليه “إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جَهَدها: وجب الغسل.

والمراد بشعبها الأربع: يداها ورجلاها، أو رجلاها وفخذاها..

ومعنى (جهدها): أي بلغ جهده، في العمل بها، وكدها بحركته.

قال النووي: معنى الحديث: أن إيجاب الغسل لا يتوقف على الإنزال.

وتعقبه بعضهم بأنه يحتمل أن يراد بالجهد أو الإجهاد للمرأة: الإنزال، لأنه هو الغاية في الأمر، فلا يكون فيه دليل.

وأجاب الحافظ في الفتح: بأن التصريح بعدم التوقف على الإنزال، قد ورد في بعض طرق الحديث، فانتفى الاحتمال. ففي رواية مطر الوراق عن الحسن في مسلم “وإن لم ينزل”.

وإن كنا نخشى أن تكون هذه الزيادة مدرجة من الراوي، فهي مخالفة للروايات الأخرى الصحيحة.

هذا مذهب جمهور العلماء من فقهاء الأمصار.

وقال داود: لا يجب ما لم ينزل، لحديث: “إنما الماء من الماء”.

وبهذا قال عدد من الصحابة المعروفين، منهم: عثمان بن عفان، وعليُّ بن أبي طالب، وأبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو سعيد الخدري، رضي الله عنهم، وكل هؤلاء من علماء الصحابة، وهذا ثابت في الصحيحين أو أحدهما.

قال النووي: ثم منهم من رجع إلى موافقة الجمهور، ومنهم من لم يرجع.

واحتج من لم يوجب الغسل بغير الإنزال بما رواه البخاري في صحيحه عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: أنه سأل عثمان بن عفان عن الرجل: يجامع امرأته، ولم يُمْن؟ (أي لم ينزل المني) قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره. وقال عثمان: سمعته من رسول الله . قال زيد: فسألت عن ذلك: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبيَّ بن كعب: فأمروه بذلك.  أي أمروه أن يتوضأ ويغسل ذكره. وفي رواية الإسماعيلي: فقالوا مثل ذلك، وظاهره: أنهم أفتوه وحدثوه عن النبي كما حدّث عثمان.

كما روى البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن عروة بن الزبير أخبره: أن أبا أيوب (الأنصاري) سمع ذلك من رسول الله .

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله أرسل إلى رجل من الأنصار، فجاء ورأسه يقطر، فقال النبي : “لعلنا أعجلناك!” قال: نعم. فقال رسول الله : “إذا أُعْجلت أو أُقحطت، فعليك الوضوء”  وفي رواية: “فلا غسل عليك، وعليك الوضوء”.

ومعنى: أُعجلت أو أُقحطت: أي جامعت ولم تنزل. (يروى: أقحطت وأُفحطت). وفي حديث آخر لأبي سعيد: أن أحد الصحابة سأله: يا رسول الله! أرأيت الرجل يُعجل عن امرأته، ولم يُمْن: ماذا عليه؟ قال: “إنما الماء من الماء”.

ومعناه: لا يجب الغسل بالماء إلا من إنزال الماء الدافق، وهو المني. وليس بمجرد الإيلاج.

وهذه الروايات الصحيحة كلها واضحة صريحة الدلالة على أن الرجل إذا جامع ثم أقحط، أو أكسل ولم ينزل: فلا غسل عليه.

قال الحافظ في (الفتح): وقد ذهب الجمهور إلى أن ما دل عليه حديث الباب (أو أحاديثه) من الاكتفاء بالوضوء إذا لم ينزل المجامع: منسوخ بما دل عليه حديث أبي هريرة وعائشة المذكوران في الباب قبله. واستدل الحافظ على النسخ بما رواه أحمد وغيره عن أبيِّ بن كعب: أن الفتيا التي كانوا يقولون: “الماء من الماء”: رخصة كان رسول الله : رخص بها في أول الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد. وهذا الحديث وإن صححه ابن خزيمة وابن حبان والإسماعيلي: بيّن الحافظ أنه معلول، وكذا في طريقه الأخرى عند أبي داود.

وقد روى البخاري حديثا صريحا في ذلك عن أبي بن كعب: أنه قال: يا رسول الله: إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي. قال أبو عبد الله (أي البخاري): الغسل أحوط، وذلك الأخير، وإنما بينا لاختلافهم.

وقول البخاري: الغسل أحوط: ظاهر في أنه لا يرى وجوب الغسل عند عدم الإنزال، بل يستحبه من باب الاحتياط.

ذلك أن الاختلاف بين الصحابة كبير في هذه القضية، والمختلفون فيها من كبار الصحابة ومن فقهائهم وعلمائهم المعدودين.

وقول الإمام النووي: المسالة اليوم مجمع عليها، ومخالفة داود لا تقدح في الإجماع عند الجمهور: دعوى غير مسلمة، كيف وقد رأينا قول البخاري: الغسل أحوط؟

ومحاولة بعضهم ـ كابن العربي ـ نفي الخلاف: معترض، فإنه مشهور بين الصحابة، ثابت عن جماعة منهم، كما قال في الفتح.

وادعاء بعضهم ـ كابن القصار ـ ارتفاع الخلاف بين التابعين: معترض أيضا، فقد قال به منهم: الأعمش، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهشام بن عروة، وهو ثابت عنهم بأسانيد صحيحة، كما قال الحافظ.

وروى عبد الرزاق عن عطاء قال: لا تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى أغتسل من أجل اختلاف الناس، لأخذنا بالعروة الوثقى.

فهذا أحد فقهاء التابعين بين لنا أن الناس في عهده مختلفون في المسألة.

وقال الشافعي في (اختلاف الحديث): حديث “الماء من الماء” ثابت، لكنه منسوخ، إلى أن قال: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا ـ يعني من الحجازيين ـ فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل. اهـ. قال الحافظ: فعرف بهذا: أن الخلاف كان مشهورا بين التابعين ومن بعهدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب. والله أعلم.   اهـ.

والمنهج الذي نرجحه في مثل هذه القضايا الخلافية الكبيرة: أن لا نهيل التراب على الخلاف الثابت، وندعي الإجماع فيما وقع فيه الخلاف، بل يجب أن تظل القضايا الخلافية خلافية، كما يجب أن تظل الإجماعية إجماعية، ولا نحاول أن نحدث فيها خرقا، لما في الخلاف ـ عادة ـ من توسعة ورحمة بالأمة. ولا سيما إذا كان الخلاف بهذا الحجم الذي رأيناه بين الصحابة، ثم من بعدهم. وهو يحمل رخصة قد يحتاج الناس إليها في عصرنا، فلا نغلق عليهم بابا للتيسير فتحه الله تعالى.

الموت: ومن موجبات الغسل: الموت. فهذا مما أجمعت عليه الأمة: أن يغسل الميت، ذكرا كان أم أنثى، كبيرا أم صغيرا، إلا من قتل شهيدا في سبيل الله، فيترك على حاله، ويكفن في ثيابه التي استشهد فيها.

وفي الصحيحين عن أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله حين توفيت ابنته، فقال: “اغسلنها ثلاثا أو خمسا، أو أكثر من ذلك ـ إن رأيتن ـ بماء وسِدْر. اجعلن في الأخيرة كافورا، أو شيئا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني”… الحديث.

وغسل الميت من فروض الكفاية على الأحياء، وخصوصا أهل محليته، وقد أوجب الإسلام غسل الميت وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، وكلها فروض كفائية، وسنفصل أحكامها عند حديثنا عن (الجنائز).

الخلاف في غسل الكافر إذا أسلم:

واختلفوا في وجوب غسل الكافر إذا أسلم، فقال بعضهم: هو واجب. واستدلوا بحديث أبي هريرة في إسلام ثمامة بن أثال. وأن الرسول قال لهم: “اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل” رواه أحمد وابن خزيمة. ولكن العلماء ضعفوه.