إن كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خلق له حتى لا يصدر منه أصلاً، أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب.
فمرض اليد أن يتعذر عليها البطش.
ومرض العين أن يتعذر عليها الإبصار.
وكذلك مرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله؛ وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ بذكره، وإيثاره ذلك على كل شهوة سواه، والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه. قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: 56].
ففي كل عضو فائدة، وفائدة القلب: الحكمة والمعرفة. وهي خاصية النفس التي للآدمي، وبها يتميز عن البهائم، فإنه لم يتميز عنها بالقوة على الأكل والوقاع والإبصار أو غيرها؛ بل بمعرفة الأشياء على ما هي عليه. وأصل الأشياء وموجدها ومخترعها هو الله عز وجل الذي جعلها أشياء.
فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله عز وجل فكأنه لم يعرف شيئًا. وعلامة المعرفة: المحبة، فمن عرف الله تعالى أحبه، وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه الدنيا ولا غيرها من المحبوبات كما قال الله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم) إلى قوله تعالى: (أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) (التوبة: 24) فمن عنده شيء أحب إليه من الله فقلبه مريض، كما أن كل معدة صار الطين أحب إليها من الخبز والماء أو سقطت شهوتها عن الخبز والماء فهي مريضة. فهذه علامات المرض وبهذا يعرف أن القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله.
وأما علامات عودها إلى الصحة بعد المعالجة فهو أن ينظر في العلة التي يعالجها، فإن كان يعالج داء البخل فهو المهلك المبعد عن الله عز وجل وإنما علاجه ببذل المال وإنفاقه، ولكنه قد يبذل المال إلى حد يصير به مبذرًا، فيكون التبذير أيضًا داء، فكان كمن يعالج البرودة بالحرارة حتى تغلب الحرارة فهو أيضًا داء، بل المطلوب الاعتدال بين الحرارة والبرودة.
وكذلك المطلوب الاعتدال بين التبذير والتقتير حتى يكون على الوسط وفي غاية من البعد عن الطرفين، فإن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل يوجبه الخلق المحذور، فإن كان أسهل عليك وألذ من الذي يضاده فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل فزد في المواظبة على البذل، فإن صار البذل على غير المستحق ألذ عندك وأخف من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير فارجع إلى المواظبة على الإمساك، فلا تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى المال، فلا تميل إلى بذله ولا إلى إمساكه، بل يصير عندك كالماء فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج أو بذله لحاجة محتاج، ولا يترجح عندك البذل على الإمساك. فكل قلب صار كذلك فقد أتى الله سليمًا عن هذا المقام خاصة.
ويجب أن يكون سليمًا عن سائر الأخلاق حتى لا يكون له علاقة بشيء مما يتعلق بالدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها غير ملتفتة إليها ولا متشوقة إلى أسبابها، فعند ذلك ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة راضية مرضية، داخلة في زمرة عباد الله المقربين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض، بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف، فلا جرم أن من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، جاز على الصراط في الآخرة، وقلما ينفك العبد عن ميل عن الصراط المستقيم –نعني الوسط- حتى لا يميل إلى أحد الجانبين فيكون قلبه معلقًا بالجانب الذي مال إليه، ولذلك لا ينفك عن عذاب ما، واجتياز على النار، وإن كان مثل البرق قال الله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا* ثم ننجي الذين اتقوا) (مريم: 71، 72) أي الذين كان قربهم إلى الصراط المستقيم أكثر من بعدهم عنه.
ولأجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قوله: (اهدنا الصراط المستقيم) إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
روي أن بعضهم رأى رسول الله ﷺ في المنام فقال: قد قلت يا رسول الله شيبتني هود، فلم قلت ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: (فاستقم كما أمرت) (هود: 112) فالاستقامة على سواء السبيل في غاية الغموض، ولكن ينبغي أن يجتهد الإنسان في القرب من الاستقامة إن لم يقدر على حقيقتها. فكل من أراد النجاة فلا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة، فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليعددها وليشتغل بعلاج واحد واحد فيها على الترتيب.
كيف يعرف الإنسان عيوب نفسه:
اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرًا بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه.
فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق:
الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، مطلع على خفايا الآفات فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه، ويعرفه طريق علاجه، وهذا قد عز في الزمان وجوده.
الثاني: أن يطلب صديقًا صدوقًا بصيرًا متدينًا فينصبه رقيبًا على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليه. فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين.
-كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرءًا أهدى إليّ عيوبي.
-وكان يسأل سلمان عن عيوبه فلما قدم عليه قال له: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟ فاستعفى، فألح عليه فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل، قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا، قال: أما هذان فقد كفيتهما.
-وكان يسأل حذيفة ويقول له: أنت صاحب سر رسول الله ﷺ في المنافقين، فهل ترى عليّ شيئًا من آثار النفاق؟ فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه.
فكل من كان أوفر عقلاً وأعلى منصبًا كان أقل إعجابًا وأعظم اتهامًا لنفسه، إلا أن هذا أيضًا قد عز، فقل في الأصدقاء من يترك المداهنة فيخبر بالعيب، أو يترك الحسد، فلا يزيد على قدر الواجب.
الطريق الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه؛ فإن عين السخط تبدي المساويا. ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه فإن مساويه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم.
الطريق الرابع: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذمومًا فيما بين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه، ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى، فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره وناهيك بهذا تأديبًا، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب.
من أقوال العلماء:
*صف قلبك بأكل الحلال، والصدق في طلب الحق عز وجل، والزهد في الدنيا، وإخراج الخلق من القلب، وتجرده عن سوى مولاه عز وجل.
*جلاء القلب ودواؤه في خمس: قراءة القرآن بالتدبر، وقيام الليل، وإخماص البطن، والتضرع بالأسحار، ومجالسة الصالحين.
ويقول الدكتور حسن عباس زكي في كتابه مذاقات في علم التصوف:
القلب: وهو الأصل الجامع لجميع الأعضاء، وهو كالملك وسائر الأعضاء تبع له.. وإذا رأيت عضوًا فاسدًا، فاعلم أن ذلك سببه خلل القلب فينبغي إصلاحه. وأمره دقيق لأنه مبني على الخواطر، فإن لم يكن القلب عامرًا بتقوى الله وأنوار الحق، فإنه يكون عرضة لخواطر الشر من الشيطان أو من هوى النفس، وهي ليست إليك، والامتناع عن اتباعها مجهود لطاقتك، ففيه أقصى المشقة.. ولهذا المعنى صار صلاحه أشد على أهل الاجتهاد،
فعليك أيها المسلم بحفظه وصلاحه، وحسن النظر فيما يلي:
أ – أن الله أعلم بما في نفوسنا، فانظر ماذا تحب أن يعلم الله من قلبك.
ب – إن الله لا ينظر إلى صورنا وأنسابنا، وإنما ينظر إلى قلوبنا ونياتنا، فالقلب موضع نظر رب العالمين.. فكيف تهتم بموضع نظر الخلق، وتهمل موضع نظر رب العالمين؟
جـ- القلب ملك مطاع، فإذا صلح المتبوع، صلح التابع، وإذا استقام الملك، استقامت الرعية. ولذلك فالجسد فيه مضغة، إذا صلحت، صلح سائر الجسد كله، وهي القلب.
د – إن القلب خزانة كل جوهر نفيس، وكل معنى: أولها العقل، وأجلها معرفة الله تعالى، التي هي سبب سعادة الدارين، ثم البصائر التي بها التقوى والوجاهة عند الله، ثم النية الخالصة في الطاعات، ثم أنواع العلوم والحكم.
دلائل حياة القلب وآفاته:
علامة حياته: إشراق نور العقل، فينشرح الصدر، وتخمد النفس، وتنقمع الشهوات الباطنة والظاهرة.
والقلب الميت: لا يخشع ولا يلين، ولا يألف ولا يرحم، وصاحبه رديء النفس، وليس له استئناس بالباطن، ويكره الوحدة، ويميل للاجتماع، ويحب القيل والقال والهذر، وترى صاحب القلب الحي عكس ذلك.
آفات القلب: الأمل، وعكسه: قصر الأمل.. الحسد، وعكسه: النصيحة.. الاستعجال، وعكسه: التأني في الأمور.. الكبر، وعكسه: التواضع.
أ – طول الأمل: ضرره أنه يسوف ويؤجل الطاعات، ويدعو للكسل، ويحرص على الدنيا والاشتغال بها ونسيان الآخرة.. أما إذا قصدت أملك، وقربت نفسك من الموت، وتذكرت أحوال من ماتوا، لأبغضت الأمل وغروره، وأسرعت بالطاعات.
ب – الحسد: مفسد للطاعة، باعث على الخطيئة، وهو يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب، ويساعد على فعل المعاصي كالتملق والاغتياب، والتعب وعمى القلب والحرمان والخذلان.
جـ- الاستعجال: خصلة مفوضة للمقاصد الموقعة في المعاصي، فلا تستعجل نيل ما لم يحصل أوانه.. لا تستعجل استجابة الدعاء قبل أوانه، فقد يؤدي ذلك إلى فتورك.. ولا تسأم فتترك الدعاء فتحرم حاجتك.. لا تعجل بالدعاء على الناس، فقد تقع في معصية بسبب ذلك.. وأصل العبادة الورع، فالورع أصل النظر البالغ في كل شيء، والبحث التام عن كل شيء وهو بصدده: في أكل وشرب ولبس وكلام وفعل.. أما المستعجل فيفوته كل ذلك.
د – الكبر: خصلة مهلكة، وهي تقدح في الدين والاعتقاد، لا في الأعمال فقط، مثل سائر الخصال.