من صفات الغرباء – الذين غبطهم النبي ﷺ-: التمسك بالسنة، إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًا، وأكثر الناس – بل كلهم – لائم لهم – فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم!.
من هو الغريب في الدين:
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي-رحمه الله تعالى-:
من المفيد أن أنقل هنا ما كتبه الإمام ابن القيم حول هذا الحديث، عند شرح كلام شيخه الهروي في باب: “الغربة” من “منازل السائرين” إلى مقامات “إياك نعبد وإياك نستعين” فقال رحمه الله في “مدارج السالكين”: .
قال شيخ الإسلام: “باب الغربة” قال الله تعالى: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) (هود: 116) قال ابن القيم معلقًا وشارحًا: .
(استشهاده بهذه الآية في هذا الباب، يدل على رسوخه في العلم والمعرفة، وفهم القرآن، فإن الغرباء في العالم: هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية. وهم الذين أشار إليهم النبي -ﷺ- في قوله: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء”، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)
-وفي حديث الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -ﷺ-: “إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء”، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: “النُّزَّاع من القبائل” (الحديث في الدارمي برقم -2757- وابن ماجه برقم -3988- والترمذي برقم -2631- بدون السؤال وقال: حسن غريب صحيح، والبيهقي في الزهد برقم -208- والبغوي في شرح السنة، وصححه 1/118 حديث -64- نشر المكتب الإسلامي).
-وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال النبي -ﷺ- – ذات يوم ونحن عنده -: “طوبى للغرباء” قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: “ناس صالحون قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم” (الحديث في المسند وصححه الشيخ شاكر، كذا أورده الهيثمي 7/278، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف. وذكره في موضع آخر جزءًا من حديث، وعزاه إلى الطبراني في الكبير، وقال: له فيه أسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح 10/256).
-وقال أحمد: حدثنا الهيثم بن جبل حدثنا محمد بن مسلم حدثنا عثمان بن عبد الله عن سليمان بن هرمز عن عبد الله بن عمرو عن النبي -ﷺ- قال: “إن أحب شيء إلى الله الغرباء”. قيل: ومن الغرباء؟ قال: “الفرارون بدينهم، يجتمعون إلى عيسى بن مريم -عليه السلام- يوم القيامة” (رواه أحمد في الزهد ص77، وليس في المسند، كما رواه البيهقي في الزهد برقم -206).
-وفي حديث آخر “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا، كما بدأ. فطوبى للغرباء ” قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: “الذين يحيون سنتي، ويعلمونها الناس” (رواه البيهقي في الزهد من حديث كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده وهو ضعيف جدًا، رقم-207- كما رواه الترمذي برقم -2632-، وقال: حسن، وفي بعض النسخ حسن صحيح!! ولفظه: “فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي” وهذا مما أخذه عليه النقاد، ولعله حسنه أو صححه لكثرة شواهده).
فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدًا: سموا “غرباء” فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات.
فأهل الإسلام في الناس غرباء.
والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء.
وأهل العلم في المؤمنين غرباء.
وأهل السنة – الذين يميزونها من الأهواء والبدع – فيهم غرباء.
والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين: هم أشد هؤلاء غربة.
ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًا، فلا غربة عليهم. وإنما غربتهم بين الأكثرين، والذين قال الله عز وجل فيهم: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام: 116)، فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه. وغربتهم هي الغربة الموحشة. وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم. كما قيل: .
فليس غريبًا من تناءت دياره .
ولكن من تنأين عنه غريب.
ولما خرج موسى -عليه السلام- هاربًا من قوم فرعون انتهى إلى مدين، على الحال التي ذكر الله، وهو وحيد غريب خائف جائع، فقال: “يا رب، وحيد مريض غريب. فقيل له: يا موسى، الوحيد: من ليس له مثلي أنيس. والمريض: من ليس له طبيب. والغريب: من ليس بيني وبينه معاملة”.
فالغربة ثلاثة أنواع:
غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق. وهي الغربة التي مدح رسول الله أهلها. وأخبر عن الدين الذي جاء به: أنه “بدأ غريبًا” وأنه “سيعود غريبًا كما بدأ” وأن “أهله يصيرون غرباء”.
وهذه الغربة:
–قد تكون في مكان دون مكان.
-ووقت دون وقت،.
–وبين قوم دون قوم.
ولكن أهل هذه “الغربة” هم أهل الله حقًا. فإنهم لم يأووا إلى غير الله. ولم ينتسبوا إلى غير رسوله – ﷺ-. ولم يدعوا إلى غير ما جاء به. وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم. فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم. فيقال لهم: “ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس، ونحن أحوج إليهم منا اليوم. وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده”.
فهذه “الغربة” لا وحشة على صاحبها. بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس. وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا. فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.
وفي حديث القاسم عن أبي أمامة عن النبي -ﷺ- قال – عن الله تعالى -: “إن أغبط أوليائي عندي: لمؤمن، خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاته. أحسن عبادة ربه، وكان رزقه كفافًا، وكان مع ذلك غامضًا في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وصبر على ذلك حتى لقي الله. ثم حلت منيته (نص الترمذي: ثم نفض بيده فقال: عجلت منيته. . . إلخ والمراد بقوله: “أغبط الناس: أحق من يتمنى الناس مثل حاله. و”خفيف الحاذ”: أي خفيف الظهر من العيال. “كفافًا”: أي بقدر الحاجة. “لا يشار إليه بالأصابع”: أي أنه مغمور غير مشهور. ومعنى “عجلت منيته”: أنه لم يعمر طويلاً، فقد يصاب أو يستشهد في سبيل الله. “قل تراثه”: لم يترك مالاً كثيرًا. قلت بواكيه”: ربما لموته في الغربة) وقل تراثه، وقلت بواكيه” (رواه الترمذي في الزهد -2348- من طريق عبد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم، وهو إسناد ضعيف، وإن حسنه الترمذي، كما رواه ابن ماجه بنحوه بإسناد آخر -4117- وفيه راويان ضعيفان كما في الزوائد).
من هم الغرباء الذين تحدث عنهم الرسول:
-من ذكرهم أنس في حديثه عن النبي -ﷺ-: “رب أشعث أغبر، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره” (أورده الهيثمي بنحوه في المجمع 10/264، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن موسى التميمي وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح،عدا جابر بن هرم، وقد وثقه ابن حبان على ضعفه، وأورد نحوه من حديث ابن مسعود، وإسناده أجود
-وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة “رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره” الحديث رقم -2622).
-وفي حديث أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل عن النبي -ﷺ- قال: “ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة؟” قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “كل ضعيف أغبر، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره” (رواه ابن ماجه -4115- وفيه سويد بن عبد العزيز، ضعفوه، وحسنه بعضهم لشواهده. انظر: فيض القدير: حديث -2852).
وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب.
ما هي صفات الغرباء:
هم الذين غبطهم النبي ﷺ-:
-المتمسكون بالسنة، إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم.
-وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده.
-وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًا، وأكثر الناس – بل كلهم – لائم لهم – فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم!.
ومعنى قول النبي – ﷺ -: “هم النزاع من القبائل” أن الله سبحانه بعث رسوله، وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان ونيران، وعباد صور وصلبان، ويهود وصابئة وفلاسفة، وكان الإسلام في أول ظهوره غريبًا، وكان من أسلم منهم، واستجاب لله ولرسوله: غريبًا في حيه وقبيلته، وأهله وعشيرته.
فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعًا من القبائل، بل آحادًا منهم. تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا في الإسلام، فكانوا هم الغرباء حقًا حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجًا. فزالت تلك الغربة عنهم، ثم أخذ في الاغتراب والترحل، حتى عاد غريبًا كما بدأ. بل الإسلام الحق – الذي كان عليه رسول الله وأصحابه – هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة. فالإسلام الحقيقي غريب جدًا، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس.
وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدًا، غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة، ذات أتباع ورئاسات، ومناصب وولايات. ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول -ﷺ-؟ فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم.
فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبًا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شيخهم، وأعجب كل منهم برأيه؟ كما قال النبي -ﷺ-: “مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم، فإن وراءكم أيامًا، الصابر فيهن كالقابض على الجمر” ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت – إذا تمسك بدينة – أجر خمسين من الصحابة (وهذا يقوي قول الحافظ ابن عبد البر في أن تفضيل قرن الصحابة تفضيل للمجموع لا لكل فرد، باستثناء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأهل بدر وأهل أحد، وأهل بيعة الرضوان، ومن كان له فضيلة خاصة من الصحابة، وهذا يفتح باب الأمل للأجيال اللاحقة، ويؤيده حديث الترمذي: “مثل أمتي كمثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره”).
ففي سنن أبي داود والترمذي – من حديث أبي ثعلبة الخشني – قال: سألت رسول الله -ﷺ- عن هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (المائدة: 105)، فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام، فإن من وراءكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله” قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: “أجر خمسين منكم” (رواه أبو داود في الملاحم برقم (4341)، والترمذي في التفسير برقم (3060) وقال: حسن غريب، وابن ماجه في الفتن (4014). وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم.
فإذا أراد المؤمن، الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهًا في سنة رسوله، وفهمًا في كتابه، وأراه ما الناس فيه: من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم، الذي كان عليه رسول الله -ﷺ- وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط: فليوطن نفسه على قدح الجهال، وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه -ﷺ-، فلما أن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله.
وبالجملة: فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من العامة مساعدًا ولا معينًا، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر معروف).