أخرج أبو داود وابن عباس عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ إذا جاءَه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله ، هل بَقِيَ من بِرٍّ أبوي شيء أبَرُّهما به بعد موتهما؟ قال: ” نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرّحم التي لا تُوصَل إلا بهما، وإكرام صديقهما من بعدهما “.

(أ) الصّلاة عليهما:

قال بعض الشُّرّاح: إن المُراد بالصلاة عليهما في هذا الحديث صلاة الجنازة، كما في قوله تعالى: (ولا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) (سورة التوبة : 84) وقيل المراد بها الدُّعاء، كما في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقةً تُطهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (سورة التوبة : 103) أي ادع الله لهم بالنماء والبركة.

ويرجَّح أن يراد بها هنا الدعاء لأن رواية البخاري في “الأدب المفرد” لم يَرِد فيها ذكر الصلاة بل ورد (الدعاء لهما ).

والدّعاء مُجْمَع على جوازه وعلى نفْع الميّت به إن قبل، ومعنى نفع الميت به حصول المدعو به إذا استُجيب، واستجابته محضُ فضلٍ من الله، ولا يسمَّى في العُرف ثوابًا، أما الدُّعاء نفسه وثوابُه فهو للدّاعي؛ لأنّه شفاعة أجرها للشّافع، ومقصودُها للمشفوع له.

(ب) الاستغفار لهما:

الاستغفار هو دعاء بطلب المغفرة من الله للميِّت، وأدلّة الدعاء عامّة تشهد لمشروعيته، وقد دعا الأنبياء وغيرهم بالمغفرة لغيرهم، فقال نوح: ( ربِّ اغْفرْ لِي ولوالِديَّ ولِمَن دَخَل بَيْتِيَ مُؤمِنًا وللمؤمِنينَ والمؤمناتِ ولا تَزِدِ الظّالِمينَ إِلاّ تَبارًا ) (سورة نوح : 28) وقال إبراهيم: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوالدِيَّ وللمُؤمِنينَ يَوْمَ يَقومُ الحِسابُ) (سورة إبراهيم : 41) وروى مسلم أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دَعا لأهل بَقيع الغَرقد بالمغفرة، وسبق طلبه من المسلمين الاستغفار لأخيهم بعد دفنه، وروى أحمد وابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة بسند صحيح مرفوع أو موقوف عليه ” أنّ الرجل لتُرفَع درجتُه في الجنّة فيقول: أنَّي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدِك لكَ ” .

(جـ) إنفاذ عهد الأبوين وصلة الرحم وإكرام الصديق:

كلّ ذلك قُرَبٌ بَدنِيّة أو ماليّة يقوم بها الولد فيؤجَر عليها، ويصل أثرها للوالدين بِرًّا وإكرامًا وإحسانًا، وقد تقدم قول شارح الكنز في هذه القُرَب وغيرها، وما جاء في معجم الفقه الحنبلي عن ذلك.

(د) الصيام لهما:

روى البخاري ومسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “من مات وعليه صيامٌ صام عنه وَلِيُّه” وصح عنهما أيضًا أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صيام نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: “أرأيت لو كان على أمك دَيْن فَقَضَيْتِه أكان يُؤدي ذلك عنها”؟ قالت: نعم قال: “فصومي عن أمك.

هذان الحديثان حُجَّة قوية للذين يرون من الفقهاء أنَّ من مات وعليه صيام، سواءٌ أكان صيام رمضان أم صيام نَذْر، يصوم عنه وليُّه، والولي هو كل قريب، سواء أكان وارثًا أم غير وارثٍ، وقيل: يجوز أن يصوم عنه غير وليه من الأصدقاء مثلاً، كالدَّيْن لا يختص بسداده القريب.

وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في القوْل الجديد إلى أنَّ الميت لا يُصام عنه مُطْلقًا، مُتمسكين بقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الذي رواه النسائي بإسناد صحيح: لا يُصَلِّ أحد عن أحدٍ، ولا يَصُمْ أحدٌ عن أحدٍ. وبقول عائشة ـ رضي الله عنها: لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم: وقد أخرجه عبد الرزاق في مُصنفه، لكن هذين الأثرين لا يعارضان ما هو أقوى منهما، وهو رواية البخاري ومسلم عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّ ولي الميت يصوم عنه.

(هـ) الصّدقة عليهما:

روى أحمد والنسائي وغيرهما أن أمّ سعد بن عبادة لمَّا ماتت قال: يا رسول الله ، إنّ أمي ماتتْ، أفأتصدّق عنها؛ قال (نعم) قلت: فأيُّ الصّدقة أفضل؟ قال: (سقي الماء).

قال الحسن: فتلك سِقاية آل سعد بالمدينة، والظاهر أن هذه الصدقة ليست واجبة، وإلا لكانت مُتَعيّنة ولم يَسأل سعد عن أفضلها، وهذا الحديث وإن كان لبعض المحدِّثين فيه مقال، فإن كثيرًا من النصوص تشهد بأن الصدقة تفيد الميّت، سواء أكانت واجبة أم مندوبة.

(و) الحجّ للوالدين:

وقد أجاز العلماء قضاء الحج عن الوالدين بعد الموت، ولم يرِد ما يمنع بِرَّهما بالحجّ أو بغيره من القُرَب .

(ز) قراءة القرآن:

وفي قراءة القرآن للميّت خلاف للعلماء بين المنع من استفادته بها، بناء على أنها عبادة بدنيّة لا تَقبل النيابة، وبين الجواز بناء على رجاء رحمة الله وما ورد من بعض النصوص ، ومن تتبُّع أقوال الكثيرين يمكن استنتاج ما يلي:

1 ـ إذا قُرِئ القرآن بحَضرة الميت، فانتفاعه بالقراءة مرجوٌّ، سواء أكان معها أم لم يكن، وذلك بحكم المجاورة، فإن القرآن إذا تُلِيَ، وبخاصة إذا كان في اجتماع، حَفَّت القارئين الملائكة، وغَشِيَتْهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، روى مسلم قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يقرؤونَ كِتاب الله ويَتدارسونَه بينهم إلا حَفَّتهم الملائكة وغَشِيَتهم الرحمة ونزلت عليهم السّكينة” ! والقرآن ذكر بل أفضل الذِّكْر، وقد روى مسلم وغيره حديث: “لا يقعُد قوم يذكُرون الله إلا حفّتهم الملائكةُ، وغَشِيتهم الرّحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرَهم الله فيمَن عنده” . بل لا يشترط لنزول الملائكة وغيرهم أن تكون القراءة أو الذّكر في جماعة، فيحصُل ذلك للشخص الواحد، روى البخاري ومسلم حديث أُسيد بن حُضير الذي كان يقرأ القرآن، في مِربده وبجواره ولده وفرسه، وجاء فيه. فإذا مثل الظُّلّة فوق رأسي، فيها أمثال السُّرُج عَرَجت في الجو حتى ما أراها، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (تِلْكَ المَلائِكة تَسْتَمِع لك، ولو قرأتَ لأصبحتْ يراها الناسُ ما تَستتر منهم).

2 ـ إذا قُرِئ القرآن بعيدًا عن الميّت أو عن القبر وامتنع انتفاعه به بحكم المجاورة وحضور الملائكة ، اختلف الفقهاء في جواز انتفاع الميت به، وهناك ثلاث حالات دار الخلاف حولها بين الجواز وعدمه:

الحالة الأولى:

إذا قرأ القارئ ثم دعا الله بما قرأ أن يَرحَم الميّت أو يَغفر له، فقد توسّل القارئ إلى الله بعمله الصالح وهو القراءة، ودعا للميّت بالرّحمة، والدعاء له متفق على جوازه، وعلى رجاء انتفاعه له إن قبله الله، كمَن توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، فانفرَجت عنهم الصّخرة التي سَدّت فم الغار، وفي هذه الحالة لا ينبغي أن يكون هناك خلاف يُذكَر في عدم نفع الميت بالدعاء بعد القراءة.

الحالة الثانية:

إذا قرأ القارئ ثم دعا الله أن يُهدي مثل ثواب قراءته إلى الميت، قال ابن الصلاح: وينبغي الجزم بنفع : اللهم أوصلْ ثواب ما قرأناه، أي مثله، فهو المراد ، وأن يصرِّح به لفلان ؛ لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي فما له أولى ، ويجري ذلك في سائر الأعمال. ومعنى كلام ابن الصلاح أن الداعيَ يدعو الله أن يرحم الميت: والرحمة ليست ملكًا له بل لله، فإذا جاز الدعاء بالرحمة وهي ليست له فأولى أن يجوز الدعاء بما له هو وهو ثواب القراءة أو مثلها.

الحالة الثالثة:

إذا نَوى القارئ أن يكون الثواب، أي مثله، للميّت ابتداء أي: قبل قراءته أو في أثنائِها يصل ذلك إن شاء الله، وقال الإمام ابن رشد في نوازله: إن قرأ ووهب ثواب قراءته لميت جاز، وحصل للميت أجره، ووصل إليه نفعه، ولم يفصل بين كون الهبة قبل القراءة، أو معها أو بعدها.

والقراءة للميت، وإن حصل الخلاف فيها فلا ينبغي إهمالُها، فلعلَّ الحقّ الوصول ، إن هذه الأمور مُغَيّبة عنا، وليس الخلاف في حكم شرعي، إنما هو في أمر هل يقع كذلك أم لا.

الأمر في قبول الأعمال هو عند الله سبحانه وتعالى وأفضل ما يتقرب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى في بر والديه بعد موتهما هو الدعاء لهما فهو أي الدعاء لو تقبله الله سبحانه وتعالى فإنه سيغفر للميت ويرحمه ويتجاوز عنه.