معنى “المصور” في اللغة:
الصَّوَر بالتحريك: المَيْل، ورجلٌ أصْور؛ أي مائل، وصُرتُ إلى الشيء وأصرته ـ بالتحريك ـ إذا أمَلْته إليك؛ كقوله تعالى: (فَصُرْهُنَّ إليك) (البقرة: 260). أي: أملْهن وأجْمعهن إليك، وتصوّرت الشيء: توهّمت صورته لي، والتصاوير: التَّماثيل، وصُورةُ الأمر كذا وكذا، أي: صفته. وضربه فتصَوَّر، أي: سقط .
اسم الله “المصور” في القرآن الكريم:
ورد الاسم في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) (الحشر: 24) مرة واحدة في القرآن.
وجاء بصيغة الفعلِ مرات، كقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) (آل عمران: 6).
وقوله عز وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ) (الأعراف: 11).
وقوله سبحانه: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (التغابن:3)
معنى “المصور” في حقّ الله تبارك وتعالى:
قال ابن جرير: المُصوِّر خَلْقه كيفَ شاء، وكيف يَشاء. وقال في تفسير قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) (الانفطار: 7- 8) أي: صَرَفَك وأمَالك إلى أيّ صورةٍ شاء، إما إلى صورةٍ قبيحة؛ أو إلى صورةِ بعض قراباته.
وقال الزجاج: هو تعالى مصور كل صورة، لا على مثالٍ احتذاه؛ ولا رسمٍ ارتسمه تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وقال ابن كثير في معنى قوله تعالى: (الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) (الحشر: 24): أي الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار، كقوله تعالى: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) (الانفطار:8) ولهذا قال:”المصور” أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده؛ على الصِّفة التي يُريدها.
وقال الخطابي:”المُصوّر” هو الذي أنشأ خَلقه على صورٍ مُختلفة؛ ليَتَعارفوا بها؛ فقال: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (غافر: 64).
وبهذا يكون معنى”المصور”:
1- أن”المُصور”: هو الذي أمال خَلْقه وعدلهم، إلى الأشْكال والهيئات التي تُوافق تقديره وعلمه ورحمته، والتي تتَناسب مع مصالح الخَلْق ومنافعهم، وأنّ أصل”المُصور”: من الصَوَر؛ وهو الإمالة.
2- أن”المُصور” هو الذي أنْشأ خَلْقه على صُورٍ مختلفة، وهيئاتٍ مُتَباينة، مِنَ الطُّول والقصر، والحُسْن والقُبح، والذُّكورة والأُنوثة، كل واحدٍ بصورته الخاصة.
من آثار الإيمان باسم الله “الخالق – الخلاق – البارئ- المصور”:
1- أخبر تعالى عن نفْسه: أنه هو الخالق وحده؛ وما سواه مخلوق، فقال تعالى: (قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد: 16). وقال سبحانه: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) (فاطر:3). فكل ما سوى الله مخلوق مُحدث، كائنٌ بعد أنْ لم يَكن، وكل المخلوقات سَبَقها العدم؛ كما قال عز وجل: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ) (الإنسان: 1). وهذا قولُ الرسلِ جميعاً وأتباعهم، وخالفَ في ذلك الفلاسفة؛ القائلين بقِدَم العالم وأبديّته، وأنه لم يكنْ مُعدوماً أصْلاً، بل لم يزلْ ولا يزال؟! ولكن الكتاب العزيز يردُّ ذلك عليهم ويرفضه.
2- أنَّ الله سبحانه لم يزلْ خَالقاً، كيفَ شَاء؛ ومتى شاء؛ ولا يزال كذلك أبداً، لقوله سبحانه: (كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران: 47). وقوله: (ورّبَك يّخلق مّا يّشاء ويخًتار) (القصص: 68). وقوله سبحانه(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) (البروج: 15 – 16). وليس بعد خَلْق الخَلق اسْتفاد اسم”الخالق”، ولا بإحْداثه البّريَّة اسْتفاد اسم”الباري”، وذلك من كماله، ولا يجوز أنْ يكون فاقداً لهذا الكمال، أو مُعَطّلاً عنه في وقتٍ مِنْ الأوقات، قال تعالى: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النحل: 17).
3- إن الله تعالى ذكره خالق كل شيء، قال تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) (غافر: 62). ومِنْ جُملة مخلوقاته: أفعال العباد، وأنّه ما شاءَ كان؛ وما لم يَشأ لم يكنْ، ولا يدل هذا على أنَّ العبد ليس بفاعلٍ على الحقيقة، ولا مُريد ولا مُختار، بل هو فاعلٌ لفعله حقيقةً، وأنّ إضافة الفعل إليه إضافة حقٍّ، وأنه يَسْتوجب عليه المَدح والذَّم؛ والثوابَ والعقاب، ولكنْ لا يدلُّ هذا أنّه واقع بغيرِ مشيئة الله وقدرته. والدليل على أنَّ أفعالَ العباد مخلوقة: قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (الصافات: 96). فأفْعالهم لله تعالى خَلْق؛ ولهم كسبٌ، ولا يُنْسب شيءٌ من الخَلْق لغير الله تعالى، فيكون شَريكاً وندّاً ومُساوياً له؟! في نِسْبة الفِعْل إليه، وقد نَهَى الله سبحانه عن ذلك؛ بقوله: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22). وقد وقعَ في ذلك القَدَريَّة نُفاة القَدَر، الذين جعلوا العباد خَالِقين مع الله تعالى، ولهذا كانوا”مجوس هذه الأمة” بل أراد مِنَ المُجوس مِنْ حيثُ إنّ المَجوس أثبتوا خَالِقَين، خَالقاً للخَير؛ وخالقاً للشّر، وأما هؤلاء فقدْ أشْركوا جميعَ العباد في الخَلْق، فقالوا: هم يَخْلقون أفعالهم؟! وخالفوا بذلك الكتاب والسُّنة؛ وأهل الحق.
4- خَلْقُ اللهِ عظيمٌ مُحْكم، فلا يستطيع مخلوقٌ أنْ يَخْلقَ مثْله، فَضْلاً عن أنْ يَخْلق أفضلَ منه، قال سبحانه تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) (لقمان: 11). وفي الآية تحدٍ لجميع الخلق؛ من الجنّ والإنس وغيرهم. وقد أثبتَ الله عَجْزهم، عن خَلْق مخْلوق حيٍّ ضَعيف حقيرٍ كالذُّباب مثلاً، ولو اجْتمعوا على ذلك؛ وتعاونوا عليه، قال عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 73- 74).
5- ولذلك حرَّم اللهُ على عباده، أنْ يُصوِّروا الصُّور ذواتِ الأرْواح، لما فيها مِنْ مُضَاهاةٍ لخَلق الله، أي: تشبيه ما يصنعونه ويصورونه مِنَ الصُّور، بما يصنعه ويصوّره الله سبحانه وتعالى، كما جاء في حديث مسلم:” الذين يُشَبّهُونَ بخَلْقِ الله”. وقد وردت أحاديث كثيرة؛ في توعّد المُصورين بأشدِّ العذاب؛ كقوله ﷺ:”إنَّ أشدَّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة؛ المصورون”.
وقوله ﷺ:” إنَّ الذين يَصْنعون هذه الصُّور؛ يُعذَّبون يومَ القيامة، يقال لهم: أحْيَوا ما خَلَقْتم” . وهو أمرُ تعجيزٍ؛ ويستفاد منه صفة تعذيب المُصور، وهو أنْ يُكلفَ نفخ الرُّوح في الصورة التي صوَّرها، وهو لا يَقْدر على ذلك فيستمر تعذيبه.
قاله الحافظ. وجاء في الحديث القُدُسي قوله تعالى: “ومَنْ أظْلمُ مِمَن ذَهَبَ – أي قَصَد – يَخْلق خَلْقاً كخَلْقي، فليَخْلُقوا ذَرّة، أو ليَخْلُقوا حبَّة، أو ليَخْلُقوا شَعَيرة”. فتحدّاهم الخَالقُ سبحانه: بأنْ يَخْلقوا ذرةً؛ وهي النَّملة الصّغيرة، ثم زاد في التَّحدّي بأنْ طلب منهم أنْ يَخْلقوا حَبَّةً من قمحٍ أو ذرة أو شَعيرة، وهو مِن الجماد الذي لا حَركة فيه نسبياً، إذا ما قيس بالنسبة للنّمل الذي يتحرّك.
قال الأصبهاني: وقال بعض المُلحدة يوماً: أنا أخْلُق ! فقيل له: فأَرِنا خَلْقك، فأخذَ لحْماً فشرَّحه، ثم جعل بينه روثاً، ثم جعله في كُوزٍ وختمه؛ ودفعه إلى مَنْ حفظه عنده ثلاثةَ أيام، ثم جاء به إليه فكسَر الخاتم وإذا الكوز ملآن دُوداً، فقال: هذا خَلْقي !! فقال له بعض مَنْ حضر: فكم عدده؟ فلم يَدْرِ؟! فقال: كم منه ذكورٌ؛ وكم منه إناث؟ وهل تقوم برزقه؟ فلم يأتِ بشيء، فقال له: الخَالق الذي أحْصَى كلَّ ما خلقَ عدداً، وعَرف الذّكر من الأنثى، ورَزَق ما خَلق، وعلم مُدّة بقائه، وعَلِمَ نفادَ عمره، قال الله عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (الروم: 40). وقال: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة: 7).
وقد قسَم النووي رحمه الله”المصورين” إلى ثلاثة أقسام:
أ- مَنْ فَعَل الصورة لتُعْبد، وهو صانعُ الأصنام ونحوها؛ فهذا كافرٌ، وهو أشدُّهم عذاباً.
ب- مَنْ فَعَل الصورة وقصد مضاهاة خَلْق الله تعالى، واعتقد ذلك، فهذا كافرٌ؛ له من أشدّ العذاب ما للكفار، ويزيدُ عذابُه بزيادة قُبْح كفره.
ج- مَنْ لم يَقْصد بالصورة العبادة؛ ولا المُضَاهاة، فهو فاسقٌ صاحب ذنبٍ كبير، ولا يَكْفر كسائر المعاصي اهـ .
6- وجود هذا الخَلْق العظيم المحيط بنا مِنْ كلّ ناحية، دليل على قُدرة الخَالق وعلى عظمته وكماله، فالإنْسان يَعْجز في كثيرٍ من الأحيان؛ عن معرفة جوانب كثيرة من الأرض التي يعيش عليها، مع أنها صغيرة جداً إذا ما قِيِست بالنسبة لبقية الكون الفسيح، المليء بملايين المجرات ذات النجوم المضيئة والكواكب، والتي يعجز عن حَصْرها أوْعدّها، وهذا كلّه في السّماء الدنيا، التي فوقها ست سماوات طباق، بعضُها فوق بعض وفوقهن جميعاً الكرسي، ومِنْ عظمةِ خَلْق هذا الكرسي واتساعه؛ أنه يَسْتوعب السماوات السبع؛ والأرْضين جميعاً، قال تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) (البقرة: 255). والعرش أعظمُ من ذلك؛ والخَالق سبحانه فوق العرش، وهو جلّت عظمتُه أكبر من كلِّ شيء وأعظم. وبذلك تعلم أنَّ خَلق الإنسان ضعيف جداً، إذا ما قُورن بالسّماوات السبع والعرش والكرسي؛ كما قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (غافر: 57). وقال تعالى: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) (النازعات: 27- 29).
7- وأخيراً يجبُ أنْ نَعْلم أنّ اللهَ سبحانه وتعالى ما خَلَق هذا الخَلْق العظيم، لهْواً ولا لعباً، ولا خلقه عبثاً؛ وإنما خَلَقه لغايةٍ عظيمة، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون: 115-116). أي: أفظننتُم أنكم مخلوقون عَبَثاً، بلا قصدٍ ولا حِكمة لنا فيكم، فتعالى الله، أي: تقدَّس وتنزَّه عن ذلك، ثم ذَكَر العرش؛ لأنه سقفُ جميع المخلوقات. وقال عز وجل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) (الأنبياء: 16- 18).
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خَلَق السماوات والأرض بالحقِّ – أي بالعَدْل – ليَجْزي الذين أسَاءُوا بما عملوا، ويَجْزي الذين أحْسنُوا بالحُسْنى، وأنه لم يَخْلق ذلك عَبَثاً؛ ولا لعباً. وأبان تعالى عن هذه الغايةِ العظيمة بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) (الذاريات: 56 – 57).
من كتاب النهج الأسمى في أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي.