معنى “المستعان” في اللغة:
العونُ: الظهير على الأمر. وتقول: أعنتُه إعانةً، واستعنتُه واستعنتُ به فأعانني. والاستعانة طلبُ العَوْن قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) (البقرة: 45).
اسم الله “المستعان” في القرآن الكريم:
ورد الاسم مرتان:
في قوله عز وجل: (فصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18).
وقوله: (قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 112).
معنى “المستعان” في حق الله تبارك وتعالى:
قال ابن جرير: وقوله: (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18) يقول: والله أستعين على كفايتي؛ شرَّ ما تَصفُون من الكذب. وقال في قوله: (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) (الأنبياء: 112): يقول جلَّ ثناؤه: وقل يا محمد: وربُّنا الذي يرحم عباده؛ ويعمهم بنعمته، الذي أسْتعينه عليكم فيما تقولون وتصفون.
وفي”الأسْنى”: قال ابن العربي: وهذا الاسْم لم يرد في حديث أبي هريرة؛ ولا ذكره علماؤنا، وهو مِنْ أشرف الأسْماء لشرف مُتعلقه، وقد تضمَّنت الفاتحةُ معناه؛ فقال: (إياكَ نَعْبُدُ وإياك نَسْتَعين) (الفاتحة: 5). قلت – أي القرطبي -: قوله: ولا ذكره علماؤنا، قد ذكره غيرُ واحدٍ منهم الأُقليشي.
فالمستعانُ معناه: الذي لا يَطلبُ العون، بل يُطلبُ منه، والعَون: الظهير على الأمر، ورجل مِعْوان كثيرُ العونِ للناس، واستعنتُ بفلان؛ فأعانني وعاونني. والله سبحانه بخلاف ذلك، غنيٌّ عن الظهير والمُعين؛ والشريك والوزير، بل كل إعانةٍ وعونٍ؛ فمنه وبه سبحانه؛ لا إله إلا هو. وهو مُستفعَل من العَون، وهو وصفٌ ذاتي لله تعالى؛ راجعٌ إلى صفةِ القوة. وفيه معنى الإضافة الخاصة؛ لمَنْ استعانه من عباده على طاعته.
من آثار الإيمان باسم الله “المستعان”:
1- الله تبارك وتعالى هو (المستعانُ) الذي يُطلب منه العون والقوة؛ على فعل الطاعات؛ وترك المحرمات، وجلب المنافع ودفع المضرات. فهو سبحانه يُعين عباده؛ ولا يَسْتعين بأحدٍ منهم، لا في الأرض ولا في السموات، قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ) (سبأ: 22).
قال ابن كثير: أي: وليس في من هذه الأنداد؛ مِن ظهيرٍ يستظهر به في الأمور، بل الخَلق كلهم فقراءُ إليه، عبيدٌ لديه. وقال سبحانه: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الإسراء: 111). فقد حمد الله تبارك وتعالى نفسَه المقدسة، بأنه الأحدُ الصمد؛ الذي لم يلد ولم يولد؛ ولم يكن له كفواً أحد، وأنه ليس له مَنْ يشاركه في الملك؛ ولا في الخَلق ولا في الأمر، وأنه ليس بذليل فيحتاج إلى أنْ يكون له وليٌّ؛ أو وزير أو مشير، بل هو اللهُ الواحد القهَّار، الحيُّ القيوم بنفسه، فلا يحتاج في حياته وقيامه؛ إلى أحدٍ مِنْ خلقه، وكلُّ خَلقه بحاجةٍ إلى الاستعانة به، بل لا قيام ولا حياة؛ ولا وجود لهم إلا به؛ وبقدرته وقوته لا شريك له.
2- وللإمام المُحقق المُدقّق ابن القيم رحمه الله تعالى؛ كلامٌ جامعٌ نفيس؛ في”الاسْتعانة” وتعلقها بالعبادة؛ وأنواع الناس في هذين الأصلين العظيمين، إذْ يقول: و(الاستعانة) تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، فإنَّ العبد قد يثق بالواحد من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره – مع ثقته به – لاستتغنائه عنه. وقد يعتمد عليه – مع عدم ثقته به – لحاجته إليه، ولعدم مَن يقوم مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه، مع أنه غير واثقٍ به. و(التوكل) معنى يلتئم من أصلين: مِنَ الثِّقة، والاعتماد، وهو حقيقة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5) وهذان الأصلان – وهما التوكل، والعبادة – قد ذُكرا في القرآن في عدة مواضع، قرن بينهما فيها، هذا أحدها.
الثاني: قول شعيب عليه السلام (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود: 88).
الثالث: قوله تعالى: (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود: 123).
الرابع: قوله تعالى حكاية عن المؤمنين: (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة: 4).
الخامس: قوله تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (المزمل: 8 – 9).
السادس: قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (الشورى: 10). فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين، وهما: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5). وتقديم (العبادة) على (الاستعانة) في الفاتحة؛ مِنْ باب تقديم الغايات على الوسائل، إذْ”العبادة” غايةُ العباد التي خُلِقوا لها، و”الاسْتعانةُ” وسيلةٌ إليها.
ولأنَّ (إيَّـاكّ نّعًـبٍدٍ) متعلّقٌ بألوهيته؛ واسمه (الله)؛ و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) متعلقٌ بربوبيته؛ واسمه (الرب)؛ فقدَّم (إِيَّاكَ نَعبدُ) على (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كما قدَّم اسم (الله) على (الرب) في أول السُّورة، ولأنَّ (إيَّـاكّ نّعًـبٍدٍ) قِسْم الربّ، فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناءٌ على الله تعالى، لكونه أولى به، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قِسْمُ العبد؛ فكان الشطرُ الذي له، وهو: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) (الفاتحة: 6) إلى آخر السورة.
ولأنَّ”العبادة” المُطلقة: تتضمن”الاستعانة”؛ مِنْ غير عكسٍ، فكلُّ عابدٍ لله عبودية تامة: مُستعين به؛ ولا ينعكس، لأنَّ صاحبَ الأغْراض والشّهوات؛ قد يستعين به على شَهَواته، فكانت العبادة أكملُ وأتم، ولهذا كانت قسمَ الرب. ولأنَّ (الاستعانة) جزءٌ من (العبادة) من غير عكسٍ، ولأنَّ (الاسْتعانة) طلب منه، و(العبادة) طلب له. ولأنَّ (العبادة) لا تكونُ إلا من مُخْلص، و(الاسْتعانة) تكون من مخلصٍ؛ ومن غير مخلص. ولأنَّ (العبادة) حقُّه الذي أَوْجبه عليك، و”الاستعانة” طلبُ العون على العبادة.
وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك. وأداء حقه: أهمّ مِنَ التعرّض لصدقته. ولأنّ”العبادة” شكرُ نعمته عليك، والله يحبُّ أنْ يُشْكر، و”الإعانة” فعلُه بك؛ وتوفيقه لك. فإذا التزمتَ عبوديته، ودخلتَ تحت رقِّها؛ أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها؛ سبباً لنيل الإعانة، وكلما كان العبدُ أتمَّ عُبوديته، كانت الإعَانة مِنَ الله له أعْظم.
و”العبودية” محفوفةٌ بإعانتين:
إعانةٌ قبلها على التزامها؛ والقيام بها.
وإعانة بعدها؛ على عبودية أخرى.
وهكذا أبداً، حتى يَقضي العبدُ نَحْبه. ولأن (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) له، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) به، وما له مقدّمٌ على ما به، لأنَّ ما له؛ متعلقٌ بمحبته ورضاه، وما به؛ متعلقٌ بمشيئته، وما تعلّق بمحبته أكمل؛ مما تعلّق بمجرد مشيئته، فإنّ الكون كله متعلّقٌ بمشيئته، والملائكة والشياطين؛ والمؤمنون والكفار، والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته: طاعتُهم وإيمانهم. فالكفار أهلُ مشيئته، والمؤمنون أهلُ محبته، ولهذا لا يستقرُّ في النار شيءٌ لله أبداً. وكل ما فيها؛ فإنه به تعالى وبمشيئته. فهذه الأسْرار؛ يتبيّن بها حِكْمة تقديم (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين، ففيه: أدَبُهم مع الله؛ بتقديم اسمه على فعلهم، وفيه الاهتمام وشدّة العناية به، وفيه الإيذان بالاخْتصاص، المُسمّى بالحصر، فهو في قوة: لا نعبدُ إلا إياك، ولا نستعينُ إلا بك، والحاكم في ذلك ذوق العربية؛ والفقه فيها، واسْتقراء موارد استعمال ذلك مقدماً، وسيبويه نصَّ على الاهتمام، ولم ينف غيره. (أقسَامُ الناسِ في العِبادة والاستعانة): إذا عرفتَ هذا، فالناسُ في هذين الأصلين – وهما العبادة والاسْتعانة – أربعة أقسام:
أجلُّها وأفْضلُها: أهلُ العبادة؛ والاسْتعانة بالله عليها، فعبادة الله غايةُ مُرادهم؛ وطلبهم منه أن يُعينهم عليها، ويُوفّقهم للقيام بها، ولهذا كان مِنْ أفضل ما يُسْأل الربّ تبارك وتعالى: الإعانة على مَرْضاته، وهو الذي علَّمه النبي ﷺ لحبِّه مُعاذ بن جبل، فقال:” يا معاذُ، والله إنِّي لأُحبُّك، فلا تنسَ أنْ تقول دُبُر كلِّ صلاة: اللهمَّ أعِنِّي على ذِكركَ وشُكرِكَ؛ وحُسنِ عِبادَتِكَ”. فأنفع الدعاء: طلبُ العون على مَرْضاته، وأفضلُ المواهب: إسْعافه بهذا المَطلوب، وجميع الأدْعية المأثورة مَدَارُها على هذا، وعلى دفع ما يُضادُّه، وعلى تكميله وتيسير أسبابه، فتأملها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – قدَّس الله روحه -: فتأمّلت أنفعَ الدعاء: فإذا هو سُؤال العون على مرضاته، ثم رأيتُه في الفاتحة في: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5).
ومقابل هؤلاء: القسم الثاني: وهم المُعْرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادةَ ولا استعانة؟! بل إنْ سأله أحدُهم واستعان به، فعلى حُظُوظه وشهواته، لا على مَرضاة ربّه وحقوقه. فإنّه سبحانه يسأله مَنْ في السّموات والأرض: يَسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمُدُّ هؤُلاء وهؤلاء، وأبْغضُ خَلْقه: عدُوه إبْليس، ومع هذا فقد سأله حاجةً فأعطاه إيّاها، ومتّعه بها، ولكنْ لمّا لم تكنْ عَوناً له على مَرْضاته، كانت زيادةً له في شِقْوَتِه، وبُعْده عن الله؛ وطرْده عنه، وهكذا كل مَنْ استعان به على أمرٍ؛ وسأله إياه، ولم يكنْ عوناً على طاعته، كان مُبْعداً له عنْ مرضاته، قاطعاً له عنه ولا بدّ.
وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال: تَسأله أنْ يَجعله عوناً لك على طاعته، وبلاغاً إلى مرضاته، ولا يجعله قاطعاً لك عنه، ولا مُبْعداً عن مرضاته.
القسم الثالث: من له نوعُ عبادةٍ بلا اسْتعانة، وهؤلاء نوعان:
أحدهما: القَدَريَّة، القائلون بأنّه قد فَعلَ بالعبد؛ جميع مقدوره من الألْطاف، وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل، فإنه قد أعانه بخَلْق الآلاتِ وسَلامتها، وتعريف الطريق، وإرسال الرسل، وتَمْكينه من الفِعل، فلم يبقَ بعد هذا إعانةً مقدورةً يسأله إياها، بل قد ساوَى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة ! فأعانَ هؤلاء كما أعانَ هؤلاء، ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان، وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر، مِنْ غير أنْ يكونَ اللهُ سبحانه وفَّقَ هؤلاء بتوفيقٍ زائد، أوجبَ لهم الإيمان، وخَذَلَ هؤلاء بأمرٍ آخر، أوْجب لهم الكُفر ! فهؤلاء لهم نصيبٌ منقوصٌ من العبادة، لا اسْتعانة معه، فهم مَوكُولُون إلى أنفْسهم، مَسْدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقّدَر؛ نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذَّب بقَدَره، نقضَ تكذيبه توحيده.
النوع الثاني: مَن لهم عباداتٌ وأوْراد، ولكن حظّهم ناقصٌ مِنَ التوكّل والاسْتعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسْباب بالقَدر، وتلاشيها في ضِمْنه، وقيامها به، وأنها بدون القدر؛ كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدمِ الذي لا وجودَ له، وأنَّ القدر كالروح المُحرّك لها، والمعوّل على المحرّك الأول. فلم تنفذ قوى بصائرهم مِنَ المُتحرّك إلى المحرِّك، ومِنَ السَّبب إلى المُسبّب، ومن الآلة إلى الفاعل، فضعُفتْ عزائمهم؛ وقصُرت هِمَمهم، فقلَّ نصيبُهم من (إياكَ نَسْتَعين) ولم يجدوا ذوق التعبّد بالتوكّل والاسْتعانة، وإنْ وَجَدوا ذوقه بالأوْرَاد والوظائف. فهؤلاء لهم نصيبٌ من التوفيق؛ والنفوذ والتأثير، بحسب اسْتعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخُذْلان والضعف؛ والمَهَانة والعجز، بحسب قلّة اسْتعانتهم وتوكلهم، ولو توكّل العبدُ على الله حقَّ توكله؛ في إزالة جبلٍ عن مكانه، وكان مأموراً بإزالته، لأزاله.
(معنى التوكل والاستعانة): فإنْ قلتَ: فما معنى التوكّل والاسْتعانة؟ قلت: هو حالٌ ينشأ عن معرفته بالله، والإيمان بتفرّده بالخَلق والتدبير؛ والضّر والنَّفع، والعطاء والمَنع، وأنه ما شاء كان، وإنْ لم يشأ الناس، وما لم يشأْ لم يكن، وإنْ شاءه الناس، فيوجبُ له هذا اعتماداً عليه، وتفويضاً إليه، وطمأنينة به، وثقةً به، ويقيناً بكفايته؛ لمّا توكّل عليه فيه، وأنه مليٌّ به، ولا يكون إلا بمشيئته، شاءَه الناسُ أم أبَوْهُ . فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه، فيما ينويه من رغبةٍ ورهبةٍ؛ هما مَليَّان بهما، فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غيرِ أبويه، وحبس هَمِّه على إنزال ما ينويه بهما.
فهذه حال المتوكل، ومن كان هكذا مع الله، فاللهُ كافيه ولا بدّ، قال الله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3) أي: كافيه. و”الحَسْب” الكافي، فإنْ كان – مع هذا – من أهل التَّقوى؛ كانت له العاقبة الحميدة.
القسم الرابع: وهو مَنْ شَهِد تفرد الله بالنّفع والضُّر، وأنه ما شاءَ كان؛ وما لم يشأْ لم يكن، ولم يَدُرْ مع ما يحبه ويرضاه. فتوكّل عليه، واسْتعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، وطَلَبها منه، وأنزلها به؛ فقضيتْ له، وأُسْعفَ بها، سواء كانت أموالاً؛ أو رياسة؛ أو جاهاً عند الخلق، أو أحوالاً من كشفٍ وتأثير؛ وقوةٍ وتمكين، ولكنْ لا عاقبة له، فإنّها من جنس المُلْك الظّاهر والأموال، لا تستلزم الإسلام، فضلاً عن الوِلاية والقُرْب من الله، فإنّ المُلْك والجاه؛ والمال والحال مُعطاةٌ للبَّرِ والفاجر، والمُؤمن والكافر، فمَن استدلَّ بشيءٍ من ذلك على محبة الله؛ لمن آتاه إياه؛ ورضاه عنه، وأنه مِنْ أوليائه المقرَّبين، فهو مِنْ أجهل الجاهلين، وأبْعدهم عن معرفة الله ومعرفة دينه، والتمييز بين ما يُحبه ويرضاه، ويكرهه ويُسخطه. فالحال مِنَ الدنيا، فهو كالمُلْك والمال، إنْ أعانَ صاحبَه على طاعة الله ومرضاته، وتنفيذ أوامره: ألحقه بالملوك العادلين البَرَرة، وإلا فهو وبالٌ على صاحبه، ومُبْعدٌ له عن الله ، ومُلحقٌ له بالمُلوك الظَّلمة، والأغْنياء الفَجَرة” اهـ.
من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي