معنى “الكريم” “الأكرم” في اللغة:
قال ابن سيده: الكرمُ نقيضُ اللُّؤم، يكون في الرجل بنفسه؛ وإنْ لم يكنْ له آباء، ويُسْتعمل في الخيل والإبل والشجر؛ وغيرها من الجواهر إذا عنوا العتق، وأصْله في الناس . قال الجوهري: وقد كَرُمَ الرجل بالضم فهو كريم، وقوم كِرامٌ وكُرماء، ونسوةٌ كرائم. والكريم: الصَّفُوح. وكَرُمَ السّحابُ، إذا جاء بالغيث. وقيل لشجرة العِنب: كَرْمةٌ بمعنى كريمة، وذلك لكثرةِ خيرها؛ وقُرب جَنَاها. وقد يُسَمى الشيء الذي له قدرٌ وخطرٌ: كريماً، ومنه قوله سبحانه في قصة سليمان عليه السلام وبلقيس: (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) (النمل: 29) جاء في تفسيره: كتاب جليلٌ خطيرٌ. وقيل: وَصَفته بذلك لأنه كان مختوماً، وقيل: كان حَسَن الخط، وقيل: لأنها وجدتْ فيه كلاماً حَسَناً اهـ قال الزجاج: الكَرمُ: سُرعة إجابة النفس، كريم الخُلُق وكريم الأصل. وحكى الأحول جوزةٌ كريمةٌ، أي: هَشَّةُ المكسر، وكأن سرعةَ انكسارها وهشاشتها، جُعل إجابةً منها، فشُبه بها الكريمُ من الرجال، إذا كان سريعاً إلى الخيرات، هذا هو الأصل، والله تعالى سببُ كُلِّ خير ومُسهِّلهُ، فهو أكرم الأكرمين اهـ . وقال الزجاجي: الكريم: الجواد، والكريم: العزيز، والكريم: الصَّفوح، هذه ثلاثة أوجه للكريم في كلام العرب، كلها جائزٌ وَصْفُ الله عز وجل بها.
اسم الله “الكريم” و”الأكرم” في القرآن الكريم:
ورد اسمه”الكريم” ثلاث مرات: في قوله تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(2) (المؤمنون: 116). وقوله: (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40). وقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (الانفطار: 6). أما الأكرم فورد في قوله تعالى: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (العلق: 3).
معنى “الكريم” و”الأكرم” في حق الله تبارك وتعالى: قال ابن جرير:”كريم” ومن كرمه: أفضاله على من يكفر نِعَمَه، ويجعلها وَصْلة يتوصل بها إلى معاصيه. وقال الحليمي:”الكريم” ومعناه النَّفَّاع، من قولهم: شاةٌ كريمةٌ، إذا كانت غزيرة اللبن؛ تدرّ على الحالب، ولا تَقْلص بأخلافها، ولا تَحْبس لبنها. ولا شك في كثرةِ المنافع التي منَّ الله تعالى بها على عباده، ابتداءً منه وتفضلاً، فهو باسم الكريم أحقّ من كلِّ كريم. وقال القرطبي بعد أن ذكر أنّ الكريم له ثلاثة أوجه؛ هي: الجواد؛ والصَّفُوح؛ والعزيز، وهذه الأوجه الثلاثةُ يجوز وصف الله عز وجل بها، فعلى أنه جوادٌ كثير الخير صفوح، لا بد من مُتعلق يصفح عنه؛ وينعم عليه.
وإذا كان بمعنى العزيز، كان غير مقتضٍ مفعولاً في أحد وجوهه. فهذا الاسم متردد بين أن يكون مِن أسماء الذات، وبين أنْ يكون مِن أسماء الأفعال. والله جلَّ وعزَّ لم يزل كريماً ولا يزال، ووصفه بأنه كريم هو بمعنى نفي النقائص عنه، ووصفه بجميع المحامد، وعلى هذا الوصف يكون من أسماء الذات، إذْ ذلك راجعٌ إلى شرفه في ذاته وجلالة صفاته. وإذا كان فعلياً، كان معنى كرمه ما يصدرُ عنه؛ من الإفضال والإنعام على خَلقه. وإنْ أردت التفرقة بين”الأكرم” و”الكريم”، جعلت الأكرم الوصف الذاتي، والكريم الوصف الفعلي اهـ.
وقد حكى ابن العربي رحمه الله في معنى الكريم ستة عشر قولاً، نوردها باختصار:
- الأول: الذي يعطي لا لعوض.
- الثاني: الذي يعطي بغير سبب.
- الثالث: الذي لا يحتاج إلى الوسيلة.
- الرابع: الذي لا يبالي من أعطى ولا من يحسن، كان مؤمناً أو كافراً، مُقراً أو جاحداً.
- الخامس: الذي يستبشر بقبول عطائه ويُسرّ به.
- السادس: الذي يعطي ويثني، كما فعل بأوليائه حَبَّبَ إليهم الإيمان، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثم قال: (أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحجرات: 7- 8). ويحكى أن الجنيد سمع رجلاً يقرأ: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) (ص: 44)، فقال: سبحان الله !! أعطى وأثنى، المعنى: أنَّه الذي وهب الصّبر وأعطاه، ثم مدحه به وأثنى.
- السابع: أنَّه يعُمُّ عطاؤه المحتاجين وغيرهم.
- الثامن: أنَّه الذي يُعطي مَنْ يلومه.
- التاسع: أنَّهُ الذي يُعطِي قبل السؤال، قال الله العظيم: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (إبراهيم: 34).
- العاشر: الذي يُعطي بالتعرّض.
- الحادي عشر: أنه الذي إذا قدر عفى.
- الثاني عشر: أنه الذي إذا وعد وفَّي.
- الثالث عشر: أنَّه الذي تُرفع إليه كل حاجةٍ صغيرة كانت أو كبيرة.
- الرابع عشر: أنَّه الذي لا يُضيع من توسَّل إليه، ولا يترك من التجأ إليه.
- الخامس عشر: أنَّه الذي لا يعاتب.
- السادس عشر: أنَّه الذي لا يعاقب اهـ . أما” الأكرم” فقال الخطابي: هو أكرم الأكرمين، لا يوازيه كريم، ولا يعادله نظير، وقد يكون”الأكرم” بمعنى: الكريم، كما جاء: الأعزُّ والأطول، بمعنى العزيز والطويل. قال القرطبي: إنَّ”الأكرم” الوصف الذاتي و”الكريم” الوصف الفعلي وهما مُشتقان من الكرم، وإنْ اختلفا في الصيغة.
من آثار الإيمان باسم الله “الكريم” و”الأكرم”:
1- تكلّم ابن العربي رحمه الله كلاماً جميلاً في تَفْصيل الأقوال السّابقة، فأجادَ فيه وأفاد، قال رحمه الله تعالى:
أ ـ أما إذا قلنا: إنّ الكريم هو الكثير الخير، فمن أكثر خيراً من الله، لعموم قدرته، وسعة عطائه، قال سبحانه: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) (الحجر: 21).
ب ـ وأما إذا قلنا: إنّه الدائم بالخير، فذلك بالحقيقة لله، فإنه كل شيء ينقطعُ إلا الله وإحسانه، فإنه دائمٌ متصل في الدنيا والآخرة.
جـ ـ وأما إنْ قُلنا: إنّه الذي يَسهل خيره، ويقرب تناول ما عنده فهو الله بالحقيقة، فإنه ليس بينه وبين العبد حجابٌ، وهو قريب لمن استجاب، قال الله سبحانه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي) (البقرة: 186).
د ـ وأما إن قلنا: إنَّ الكريم هو الذي له قدرٌ عظيم، وخطرٌ كبير، فليس لأحدٍ قدر بالحقيقة؛ إلا الله تعالى، إذْ الكلُّ له خلقٌ وملكٌ، إليه يُضاف كل شيء، ومِن شرفه يشرف كل شيء، وكرمُ كل كريمٍ من كرمه.
هـ ـ وأما إنْ قُلنا: إنَّ الكريم هو المنزَّه عن النقائص والآفات، فهو الله وحده بالحقيقة، لأنه تقدَّس عن النقائص والآفات؛ وحده على الإطلاق والتمام والكمال من كل وجه، وفي كل حالٍ، بخلاف الخلق فإنهم إنْ كَرُمُوا من وجهٍ، سفَلُوا من وجه آخر، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (التين: 4 – 5).
وـ وأما إن قلنا: إنّ الكريم بمعنى المُكْرم، فمَن المكرمُ إلا الله تعالى؟! فمَنْ أكْرمه الله أُكرمَ؛ ومَنْ أهانه أهين.
ز ـ وأما إنْ قلنا: إنَّ الكريم هو الذي لا يتوقّع عِوضاً، فليس إلا الله وحده، لأنّ كل شيء خَلْقه ومِلكه؛ فما يعطي له؛ وما يأخذه له، وما يُعطي كل مُعْطٍ؛ أو يعمل كل عاملٍ، فبقدرته وإرادته، والعوضُ والمعوِّضُ خلق له.
ح ـ وأما إنْ قلنا: إنَّ”الكريم” هو الذي يُعطي لغير سببٍ فهو الله وحده، لأنه بدأ الخَلق بالنِّعم، وختم أحوالهم بالنعم، وإنْ جاء في الأخبار: أنه أعطي بكذا، أو عمل بكذا لكذا، فالعطاءُ منه والسبب جميعاً، والكلُّ عطاءٌ بغير سبب.
ط ـ وأما إن قلنا: إنَّ” الكريم” هو الذي يُعطي بغير وسيلة، فالأجواد يتفاضلون، فمنهم من يُعطي جِبِلَّةً، ومنهم من يُعطي مراعاةً لحقّ المتوسل، والباري يعطي بغير وسيلة، لأنّ حُرمة النّبي أو الولي الذي أعطى بها، أعطى بمجرّد المشيئة مِن غير وسيلة، كما قال: (وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم: 11).
ي ـ وأما إنْ قلنا: إنَّ الكريم هو الذي لا يُبالي مَن أَعطى فهو الله وحده، لأنّ الخلق جُبلت قلوبهم على حبّ مَن أحسن إليها، وبُغض من أساء إليها، والباري يُعطي الكفار والمتقين، وربما خَصَّ الكافر في الدنيا بمزيد العطاء، ولكنَّ الآخرة للمتقين.
ك ـ وأما إنْ قلنا: إنه الذي يُرى للقابل لعطائه مِنَّة، فالباري تقدّس عن تصور ذلك في حقه.
ل ـ وأما إنْ قلنا: إنَّ”الكريم” هو الذي يُعطي مَنْ يحتاج؛ ومَنْ لا يحتاج، فهو اللهُ وحده، لأنه يُعطي ويزيد على قَدْر الحَاجة، ويُعطي مَنْ يحتاج؛ ومن لا يحتاج، حتى يصبَّ عليه الدنيا صبّاً.
م ـ وأما إنْ قلنا: إنَّ”الكريم” هو الذي لا يُخصُّ بكبير من الحوائج دُون صغيرها، فهو الله تعالى، روى أنه يسأل العبد ربَّه كل شيء في صلاته، قال: حتى الملح. وذلك لأنّ أمرهُ بين الكاف والنون، فسواءً الصغير والكبير، بل الكبير عنده صغيرٌ، والعَسِير يسيرٌ؛ والصعب لين.
ن ـ وأما إنْ قلنا: إنَّه الذي إذا وعد وفَّى، فإنَّ كل من يَعِد يمكن أنْ يفي، ويمكن أنْ يقطعه عُذْرٌ، ويحولُ بينه وبين الوفاء أمرٌ، والباري صادقُ الوعد؛ لعموم قدرته؛ وعظيمِ ملكه، وإنه لا يتصوّرُ أن يقطعَ به قاطع، ولا يحول بينه وبينه مانع.
س ـ وأما إنْ قلنا: إنَّ” الكريم” هو الذي لا يُضيع مَنْ التجأ إليه، فهو اللهُ وحده، والالتجاء إليه: التزام الطاعة وحُسْن العمل، وقد أخبر بذلك عن نفسه؛ حين قال: (إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف: 30).
ع ـ وأما إنْ قُلنا: إنَّه الذي لا يُعاتِب، فقد قال الله تعالى: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ) (التحريم:3)، وقد جعلَ الله للناس مراتب؛ في العقاب والحساب والعتاب.
ف ـ وأما إنْ قلنا: إنَّ”الكريم” هو الذي إذا أَعْطى زاد على المُنى؛ فهو اللهُ وحده، فقد روي: أنه أعْطى أهلَ الجنة مُناهم، ويَزيدهم على ما يعلمون. وقد روي أنه قال سبحانه:” أعْددتُ لِعَبادي الصَّالحين: ما لا عَينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، بَلْهَ ما أُطْلعتُم عليه”. قلت: (أي القرطبي): فهذا ما ذكر العلماء من الأقوال وبيانها، ولم يذكر – أي ابن العَربي – في سَرْد الأقوال: أنَّه الذي أعطى وزادَ على المُنى، فيكون سابع عشر قَولاً. ولم يذكر بيان أنه الذي يُعطي مَن يلومه، لأنّه – والله أعلم – داخلٌ في قوله: إنه الذي لا يُبالي مَنْ أعطى، ولا ذكر بيان: أنه الذي يُعطي ويُثني، لأنه في غاية البيان؛ وهو مُفسرٌ في سرد الأقوال. ولا ذكر بيان: أنه الذي يُعطي بالتعرّض، وقد قال تعالى لنبيه محمد ﷺ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) (البقرة: 144)، فعرّض ولم يسأل؛ وأعطاه مُناه اهـ.
2- والكريم أيضاً: مَنْ يستحيي أنْ يردَّ عبده عندما يسأله،كما جاء في الحديث قوله ﷺ: “إنَّ ربّكم تبارك وتعالى حَييٌ كريم، يَسْتحيي مِنْ عبده؛ إذا رَفعَ يديه؛ أنْ يردَّهما صِفْراً”.
3- قال ابن الحصّار: وأنا أقول: إنَّ”الكريم” هو: الكثير الخير؛ المتأتِّي لكلّ ما يُراد منه، مِنْ غير تكلّف. وبهذا الاعتبار سُمِّي السّخيُّ، والنّخلةُ، والنّاقة الغزيرة اللّبن، والشّريف والجَواد من الخيل، وسائر ما وقع عليه هذا الوصف. وإذا اعتبرتَ جميع ما قيل في معنى الكرم، علمتَ أن الذي وَجَبَ لله تعالى مِن ذلك لا يُحصى، فأَوَّلُ ذلك شرفُ الذات؛ وكمال الصفات، والنزاهةُ عن النقائص والآفات، وقد تضمّن ذلك قوله الحق: (هل تعلم له سميْاً) (مريم: 65). وقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11). وقوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) (الإسراء: 44)، تعظيماً له؛ وتقديساً وتنزيهاً عن صفاتها. فهو سبحانه الكثير الخير. ومنه قوله ﷺ:” اللهم لا خيرَ إلا خيرُكَ، ولا إلهَ غيرُكَ”. وهو الذي عمَّ الجميع بعطائه وفضله، وبكرمه أمهل المكذِّبَ له، واستمرت عليه نعمته، ومن كرمه: أمهل إبليس وأنْظره، وتركه وما اختارَ لنفسه، ولم يُعجله ولا عاجَلَه. كل ذلك كرمٌ منه وفضلٌ، ومِن كرم الله تعالى أنْ تفضل على العلماء بأن علَّمهم من علمه، وأنار قلوبهم مِنْ نُوره، والشيطان يَبخل ويأمر بالبُخل، بما ليس له ولا يبقى اهـ .
4- من كرم الله تعالى: غفرانه للذنوب؛ وعفوه عنها، وتبديله السيئات بالحسنات، كما قال سبحانه: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الفرقان: 70). وجاء في الحديث الصحيح: ما يدلّ على هذا الكرم العظيم، وهو ما رواه أبو ذر الغفاري قال: قال رسول الله ﷺ:” إني لأعلمُ آخر أهلِ الجنة دُخولاً الجنة، وآخر أهل النار خُروجاً منها، رجلٌ يُؤتى به يومَ القيامة؛ فيقال: اعْرضُوا عليه صغارَ ذُنوبه؛ وارْفعوا عنه كبَارَها، فتُعْرض عليه صغارُ ذنوبه، فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملتَ يوم كذا وكذا، كذا وكذا؛ فيقول: نعم، لا يَسْتطيع أنْ يُنكر، وهو مُشْفقٌ من كبار ذنوبه؛ أنْ تُعْرض عليه، فيقال له: فإنّ لك مكانَ كلّ سيئةٍ حسنةً، فيقول: ربِّ، قد عملتُ أشياء؛ لا أراها هاهنا؟ فلقد رأيتُ رسول الله ﷺ ضَحِك؛ حتى بَدتْ نَواجذه”.
5- ومِنْ كرمه عزّ وجل: ما جاء في قوله في الحديث القدسي:” إنّ الله كَتَبَ الحَسَنات والسيئات؛ ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يَعْملها؛ كتَبَها اللهُ له عنده حَسَنةً كاملة، فإنْ هو همَّ بها فعَمِلها؛ كتَبَها اللهُ له عنده عشرُ حَسناتٍ؛ إلى سَبعمائة ضِعفٍ؛ إلى أضْعاف ٍكثيرة، ومن همَّ بسيّئةٍ فلم يَعْملها؛ كتَبها اللهُ له سَيئةً واحدة”. وزاد مسلم:” ومَحَاها الله، ولا يَهلِك على الله؛ إلا هَالك”. قال القاضي عياض رحمه الله في معنى الزيادة السابقة: معناه مَنْ حَتَم هلاكه، وسُدَّت عليه أبواب الهُدى؛ مع سَعَة رحمة الله تعالى وكَرَمه، وجعله السّيئةَ حسنةً إذا لم يعملها، وإذا عَمِلها واحدةً، والحسنة إذا لم يَعملها واحدة، وإذا عملها عشراً؛ إلى سبعمائة ضعفٍ؛ إلى أضْعاف كثيرة، فمن حُرِم هذه السَّعة، وفاته هذا الفضل، وكثرت سيئاته حتى غَلَبت – مع أنها أفراد – حَسَناته مع أنها مُتَضاعفة، فهو الهالك المَحْروم، والله أعلم.
6- ومِنْ كرمه عز وجل: أنه يكتب الحسنات لمن لم يَبْلغ من الأطفال وما شابههم، ولا يكتب عليهم السيئات، والدليل على ذلك: حديث ابن عباس عن النبي ﷺ لقي ركباً بالروحاء؛ فقال:” مَنْ القوم؟” قالوا: المسلمون، فقالوا: مَنْ أنت؟ قال:” رسول الله”، فرفعت إليه امرأة صبياً؛ فقالت: ألهذا حجٌ؟ قال:” نعم، ولك أجرٌ”. وقد أورد ابن حبان هذا الحديث في” صحيحه” بعد ذكره لحديث:” رفع القلم عن ثلاثة..” بطريقين فقال: ذكر الخبر الدّال على صحّة ما تأولنا الخبرين الأولين، اللذين ذكرناهما، بأنْ القلم رُفع عن الأقوام الذين ذكرناهم؛ في كتبة الشرِّ عليهم، دون كتبة الخير لهم.
7- ومَنْ أحب أنْ يكون أكرم الناس؛ فليتّق الله سبحانه، فإنه سبحانه وتعالى يقول: (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13). وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قيل يا رسول الله: مَن أكرمُ الناس؟ قال:” أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبيُّ الله؛ ابن نبي الله؛ ابن نبي الله؛ ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:” فعَنْ معادنِ العرب تسْألون؟ خيارُهم في الجاهلية، خيارُهم في الإسلام؛ إذا فَقِهوا”. فأعظمُ أسباب الكرامة عند الله؛ هو: تقواه وطاعته، بامتثالِ ما أَمَر، وتركِ ما نَهى عنه وزَجر؛ ولذا كان الرسل أكرمُ الخلق؛ لطاعتهم لربهم؛ صلوات الله عليهم أجمعين. وهذه هي الكرامة الحقيقية التي تبقى في الآخرة لأصحابها، حتى يدخلوا بها دار الكرامة. وأما ما يتمتع به كثيرٌ من الفجار والكفار، من التكريم بين أقوامهم وعشائرهم وأهليهم، وارتفاع شأنهم وذِكرهم بين الناس، فتكريمٌ مؤقّت زائل؛ باطلٌ مضمحل، منقلب إلى ضده يوم القيامة؛ من المهانة والعذاب الشديد، قال سبحانه عنهم: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان: 47 – 49). قال الطبري رحمه الله: فإنْ قال قائل: وكيف قيل وهو يُهان بالعذاب الذي ذَكَره الله، ويذلُّ بالعتل إلى سواء الجحيم: (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)؟ قيل: إنَّ قوله: (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) غير وصفٍ من قائل ذلك له بالعزّة والكرم، ولكنه تقريعٌ منه له بما كان يصف به نفسه في الدنيا، وتوبيخٌ له بذلك على وجه الحكاية، لأنه كان في الدنيا يقول: (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) فقيل له في الآخرة إذْ عُذِّب به في النار: ذقْ هذا الهوان اليوم، فإنّك كنتَ تزعم إنك أنتَ العزيز الكريم؟ وإنك أنتَ الذليل المَهين، فأين الذي كنت تقول وتَدَّعي؛ من العزّ والكرم؟ هلاّ تمتنع من العذاب بعزتك؟!!.
8- سمّى الله تبارك وتعالى كتابه” كريماً” في قوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة:77). قال الراغب: كلُّ شيءٍ شَرُفَ في بابه؛ فإنه يُوصَف بالكرم. قال القرطبي: أقسمَ بمواقع النجوم، إنّ هذا القرآن: قرآنٌ كريم، ليس بسحرٍ؛ ولا كِهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآنٌ كريمٌ محمود، جعله الله تعالى؛ معجزةً لنبيه ﷺ، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلامُ ربهم، وشفاءُ صدورهم، كريمٌ على أهل السماء؛ لأنه تنزيلٌ ربّهم ووحيه. وقيل:” كريم” أي: غير مخلوق. وقيل:” كريم” لما فيه من كريمِ الأخلاق؛ ومعالي الأمور. وقيل: لأنه يُكرِّم حافظه، ويُعظِّم قارئه. اهـ . 9- وسمَّى الله تعالى؛ ما أعدَّ لأنبيائه وأوليائه: بالرِّزق الكريم، كما في قوله: (لهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 4) وغيرها. وقوله: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً) (النساء: 31). قال ابن جرير: وأما المَدخل الكريم: فهو الطيّب الحَسَن المكّرم؛ بنفي الآفات والعاهات عنه، وبارتفاع الهموم والأحزان، ودُخول الكدر في عيش مَن دخله، فلذلك سمّاه الله كريماً.اهـ . وفي سؤال موسى عليه السلام ربّه؛ عن أعلى أهل الجنة منزلاً؛ قال سبحانه:” أولئك الذين أردتُ، غرستُ كرامتهم بيدي؛ وختمتُ عليها، فلم تر عينٌ؛ ولم تسمع أذنٌ؛ ولم يخطر على قلب بشر”. قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 17).
من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي.