معنى “القريب” في اللغة:
القُربُ نقيضُ البُعْد. قَرُب الشيء بالضم؛ أي: دنا، فهو قريب. والقُربان: ما قُرِّب إلى الله عز وجل وتقَرَّبتَ به.
اسم الله “القريب” في القرآن الكريم:
ورد الاسم ثلاث مرات في الكتاب، وهي: قوله جلَّ ثناؤه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186). وقوله: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 61). وقوله: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ: 50).
معنى “القريب” في حق الله تبارك وتعالى:
قال ابن جرير في قوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) (البقرة: 186): يعني تعالى ذِكْره بذلك: وإذا سَألك يا محمد عبادي عنّي؛ أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم؛ أسمعُ دعاءَهم، وأُجيبُ دعوة الداعي منهم. وقال في قوله: (إنَّ ربي قريبٌ مُجيب) (هود: 61): يقول: إنَّ ربي قريبٌ ممنْ أخْلص له العبادة، ورَغِبَ إليه في التوبة؛ مُجيبٌ له إذا دَعاه. وفي قوله: (إنَّهٍ سَميعٌ قريبٌ) (سبأ: 50): قال: إنَّ ربي سميعٌ لما أقولُ لكم، حافظٌ له، وهو المجازي لي علي صِدْقي في ذلك، وذلك منّي غير بعيد؛ فيتعذَّر عليه سماع ما أقولُ لكم؛ وما تقولون وما يقوله غيرنا، ولكنّه قريبٌ مِنْ كلّ متكلم، يَسمع كلَّ ما ينطق به، أقربُ إليه مِنْ حبل الوريد. وقال الزجاجي: (القريب) في اللغة على أوجه: القريبُ الذي ليس ببعيد، فالله عز وجل قريبٌ ليس ببعيد؛ كما قال عز وجل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: 186). أي: أنا قريبُ الإجابة، وهو مثل قوله عز وجل: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) (الحديد: 4)، وكما قال عزّ وجل: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (المجادلة: 7). وكما قال عز وجل: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق: 16). وكما قال: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) (الزخرف: 84). والله عزّ وجل محيطٌ بالأشياء كلِّها علماً؛ لا يعزُبُ عنه منها شيءٌ، وكل هذا يراد به – والله أعلم- إحاطة علمه بكل شيء، وكون كل شيء تحت قدرته وسلطانه؛ وحكمه وتصرفه. وقال الخطابي: (القريب) معناه: أنه قريبٌ بعلمه مِنْ خَلْقه، قريبٌ ممنْ يَدْعوه بالإجابة ؛كقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: 186). وقال السعدي: (القريب المجيب) أي: هو تعالى القريب من كلِّ أحد، وقربه تعالى نوعان: قُربٌ عامٌّ من كلِّ أحد، بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته. وقربٌ خاص من عابديه وسائليه ومجيبيه، وهو قرب لا تُدرك له حقيقة، وإنما تعلم آثاره من لطفه بعبده وعنايته به وتوفيقه وتسديده، ومن آثاره الإجابة للداعين، والإنابة للعابدين.
من آثار الإيمان باسم الله “القريب”:
1- وَصَفَ الله تعالى نفسه في كتابه؛ وفي سنة رسوله ﷺ؛ أنه (قريبٌ) من الداعي والمُتقرِّبُ إليه بأنواع الطاعة والإحسان، كما في قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: 186).
وثبت في الصحيحين: عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا مع النبي ﷺ في سَفرٍ فكانوا يرفعون أصْواتهم بالتكبير؛ فقال: “يا أيُّها الناس ! اربَعُوا على أنْفسكم، فإنَّكم لا تَدْعون أصمَّ ولا غائباً، إنّما تَدْعون سَميعاً قريباً، إنّ الذي تَدْعونه أقربُ إلى أحَدِكم مِنْ عُنق راحلته “.
وفي الصحيحين أيضا ً: عن النبي ﷺ قال: “يقول الله تعالى: مَنْ تقرَّب إلي شبراً؛ تقرَّبْتُ إليه ذِراعاً، ومَنْ تقرَّب إليَّ ذِراعاً؛ تقرّبتُ إليه باعاً، ومَنْ أتَاني يمشي؛ أتَيته هَرْولةً “.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:” وقُربه من العباد بتقربهم إليه؛ مما يُقِرُّ به جميع مَنْ يقول: إنه فوق العرش، سواء قالوا مع ذلك: إنه تقوم به الأفعال الاختيارية؛ أو لم يَقُولوا.
وأما مَنْ يُنكر ذلك: فمنهم مَنْ يفسّر قُرب العباد؛ بكونهم يُقاربونه ويُشابهونه مِنْ بعض الوجوه، فيكونون قريبين منه! وهذا تفسير أبي حامد والمتفلّسفة، فإنهم يقولون: الفلسفة هي: التَّشبُّه بالإله على قدْر الطّاقة؟! ومنهم مَنْ يُفسّر قربَهم بطاعتهم! ويفسّر قربَه بإثباته! وهذا تفسير جمهور الجهمية، فإنهم ليس عندهم قُرب ولا تقريب أصْلاً! والذين يُثبتون تقريبه العباد إلى ذاته، هو القول المعروف للسَّلف والأئمة، وهو قول الأشعري وغيره من الكُلابيّة، فإنهم يُثبتون قُربَ العباد إلى ذَاته، وكذلك يُثبتون اسْتواءه على العَرش بذاته، ونحو ذلك، ويقولون: الاسْتواء فعلٌ فَعَله في العَرْش؛ فصار مُستوياً على العَرْش، وهذا أيضاً قول ابن عقيل، وابن الزّاغوني، وطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم. وأما دُنُوه نفسه؛ وتقربه من بعض عباده؛ فهذا يُثبته مَنْ يُثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونُزُوله، واسْتواءه على العرش، وهذا مذهبُ أئمةِ السلف؛ وأئمة الإسْلام المشهورين وأهل الحديث، والنَّقل عنهم بذلك متواتر.
وأول مَنْ أنْكر هذا في الإسلام”الجهمية” ومَنْ وافقهم من المعتزلة، وكانوا يُنْكرون الصِّفات والعُلُو على العرش، ثم جاء ابن كُلاَّب فخالفهم في ذلك؛ وأثبتَ الصفات والعلو على العرش، لكنْ وافقهم على أنه لا تقومُ به الأمور الاختيارية؟! ولهذا أحْدثَ قوله في القرآن: إنه قديمٌ لم يتكلّم به بقدرته؟! ولا يُعْرفُ هذا القول عن أحدٍ من السّلف، بل المتواتر عنهم أنَّ القرآن كلامُ الله غير مخلوق، وأنَّ الله يتكلّم بمشيئته وقُدرته، كما ذُكرت ألْفاظهم في كتبٍ كثيرة في مواضع غير هذا.
فالذين يُثبتون أنَّه كلَّم مُوسى بمشيئته وقُدْرته؛ كلاماً قائماً به، هم الذين يقولون: إنه يَدْنو ويَقْرب مِنْ عباده بنفسه، وأما مَنْ قال: القرآن مخلوقٌ أو قديم!! فأصل هؤلاء أنه لا يُمكن أنْ يَقْرُبَ مِنْ شيء؛ ولا يدنو إليه، فمَن قال منهم: بهذا مع هذا، كان مِن تناقضه، فإنه لم يَفهم أصل القائلين بأنه قديم.
2- وَصْفُ اللهُ تبارك وتعالى نفْسه بالقُرب مِنْ داعيه وعابده والسَّاجد له، وقربه منهم في جوف الليل، وفي عَشية عرفه، ونحو ذلك مما جاءت به النُّصوص الصحيحة الصريحة، لا يتنافى مع عُلُوه على عرشه؛ وفوقيته على عباده – وهو أيضاً مما ثبتَ بالأدلّة المستفيضة – وذلك أنَّ الله تعالى ليس كمثله شيءٌ؛ وهو السّميع البصير، ولا يجوز أن تُقاس ذَاُته على ذَوات خَلْقه، أو فعله على أفعالهم.
وفي توضيح هذه المسألة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:” وأما القُربُ فهو كقوله: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة: 186)؛ وقوله: (ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق: 16) و (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ) (الواقعة: 85).
وقد افترق الناس في هذا المقام” أربع فرق”:
“فالجهمية النُّفاة” الذين يقولون: ليس داخلَ العالم، ولا خَارج العالم، ولا فوقَ، ولا تحتَ، لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته؟! بل الجميع عندهم مُتأوّل أو مُفَوّض؟! “
وقسم ثان” يقولون: إنَّه بذاته في كلّ مكان؟! كما يقوله النَّجارية، وكثير من الجهمية – عُبّادُهم، وصُوفيتهم، وعوامهم – يقولون: إنَّه عينُ وجود المخْلُوقات، كما يقوله”أهلُ الوَحْدة” القائلون بأنَّ الوُجُود واحد؟! ومَنْ يكون قوله مركّباً مِنَ الحُلول والاتِّحاد، وهم يحتجُّون بنُصوص”المعيَّة والقُرْب”، ويتأولون نُصُوص”العُلو، والاسْتواء” وكل نصٍّ يحتجُّون به؛ حُجّة عليهم، فإنّ المعيَّة أكثرُها خاصةٌ بأنبيائه وأوليائه، وعندهم أنه في كلِّ مكان؟! و”المعيّة” لا تدلُّ على المُمازجة والمخالطة، وكذلك لفظ “القُرب”، فإنّ عند الحُلولية أنه في حبل الوريد؟! كما هو عندهم في سائر الأعيان! وكل هذا كُفرٌ وجهل بالقرآن. “
والقَسْم الثالث” مَنْ يقول: هو فوقَ العرش، وهو في كلّ مكان؟! ويقول: أنا أقر بهذه النُّصوص، وهذه لا أصْرفُ واحداً منها عن ظاهره. وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في”المقالات الإسْلامية” وهو موجود في كلام طائفة من السَّالمية والصُّوفية. وهذا الصنف الثالث؛ وإنْ كان أقربَ إلى التمسُّك بالنُّصوص، وأبْعد عنْ مخالفتها من الصنفين الأولين؛
فإنّ الأول: لم يتَّبع شيئاً مِنَ النُّصوص، بل خَالفها كلَّها.
والثاني: تَرَكَ النصوصَ الكثيرة؛ المُحْكمة المُبينة؛ وتعلّقَ بنصوصٍ قليلة؛ اشْتَبهت عليه معانيها. وأما هذا الصنف فيقول: أنا اتبعتُ النُّصوص كلها، لكنه غالط أيضاً.
فكل مَنْ قال: إنَّ الله بذاته في كلِّ مكان؛ فهو مُخالفٌ للكتاب والسُّنة؛ وإجماع سلف الأمة وأئمتها، مع مخالفته لما فَطَر اللهُ عليه عباده، ولصريحِ المعْقول؛ وللأدلة الكثيرة، وهؤلاء يقولون أقوالاً متناقضة، يقولون: إنّه فوقَ العرش. ويقولون: نصيب العرش منه ؛كنصيب قلبِ العارف؟! كما يذكر مثل ذلك أبو طالب وغيره، ومعلوم أنّ قلبَ العارف نصيبه منه: المعرفة والإيمان؛ وما يتبع ذلك، فإنْ قالوا: إنَّ العرشَ كذلك، نقضوا قولهم: إنَّه نفْسه فوق العرش. وإنْ قالوا بحلُوله بذاته في قلوب العارفين، كان هذا قولاً بالحُلول الخالص؟!
وأما”القسم الرابع” فهم سلف الأمة وأئمتها: أئمةُ العلم والدّين مِنْ شيوخ العلم والعبادة، فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتابُ والسُّنة كلّه، مِنْ غير تحريفٍ للكَلم، أثبتوا أنَّ الله تعالى فوقَ سمواته، وأنه على عرشِه بائنٌ مِنْ خَلقه؛ وهم منه بائنون، وهو أيضاً مع العِباد عُموماً بعلمه، ومع أنْبيائه وأوليائه بالنَّصر والتأييد والكفاية، وهو أيضاً قريبٌ مجيبٌ، ففي آيةِ النَّجْوى دلالةٌ على أنه عالمٌ بهم. وكان النبي ﷺ يقول:” اللهمَّ أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفر؛ والخَلِيفةُ في الأهل”، فهو سبحانه مع المُسافر في سَفَره؛ ومع أهْله في وطنه، ولا يلزم مِن هذا أنْ تكونَ ذاته مُخَتلطة بذَواتهم؟! كما قال: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الفتح: 29): أي: (معه) على الإيمان، لا أنَّ ذاتهم في ذاته؛ بل هم مُصَاحبون له. وقوله: (فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء: 146) يدل على مُوافقتهم في الإيمان وموالاتهم.
فالله تعالى عالمٌ بعباده؛ وهو مَعَهم أينَما كانوا، وعِلْمُه بهم من لوازم المعيَّة، كما قالت المرأة: “زوجي طويلُ النَّجَاد، عظيمُ الرّماد، قريبُ البيتِ مِنَ النَّاد” فهذا كلُّه حقيقة، ومقصودها: أنْ تُعرف لوازم ذلك؛ وهو: طُول القَامة، والكرَم بكثرة الطّعام، وقُرْب البيت مِنْ موضع الأضْياف.
من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي