معنى “الظاهر” في اللغة:
الظَّهْر خلافُ البَطْن، والظَّاهر خلافُ الباطن، ظَهَر يَظهر ظُهوراً، فهو ظاهرٌ وظهيرٌ. والظَّهير: المعين، ومنه قوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم: 4). وظهرتُ البيتَ: عَلَوتُه، وظهرتُ على الرجل: غلبته. والظَّهر من الأرض: ما غَلُظَ وارتفعَ، والبطن ما لانَ منْها؛ وسَهل ورقَّ واطمأن. وظهرَ الشيء ظُهوراً: تبيّن، وأظْهرتُ الشيءَ بينتهُ.
اسم الله “الظاهر” في القرآن الكريم:
ورد مرةً واحدةً في قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد: 3).
معنى “الظاهر” في حق الله تبارك وتعالى:
قال الفراء: (الظاهر) على كلّ شيءٍ علماً، وكذلك (الباطن) على كل شيء علماً. وقال ابن جرير: وقوله (وَالظَّاهِرُ) يقول: وهو الظّاهر على كلّ شيءٍ دونه، وهو العَالي فوقَ كلّ شيءٍ أعلى منه. وقال الزجاجي: (الباطن) اسم الفاعل مِنْ بطن، وهو باطنٌ إذا كان غير ظاهر، (والظَّاهر): خلاف الباطن، فالله ظاهرٌ باطن، وهو باطنٌ لأنه غير مُشاهد؛ كما تُشاهد الأشياء المخلوقة، عزَّ عنْ ذلك وعلا، وهو ظاهر بالدلائل الدّالة عليه، وأفْعَاله المُؤدِّية إلى العلم به ومعرفته، فهو ظاهرٌ مُدْرك بالعقول والدلائل، وباطن غير مشاهد؛ كسائر الأشياء المشاهدة في الدنيا، عزّ وجل عن ذلك وتعالى علواً كبيراً. ويجوز في اللغة أنْ يكون (الباطن): العالم بما بطن، أي: خَفِي. ويجوز أيضاً أنْ يكون (الظَّاهر): القَوي، كقولك: ظهرَ فلانٌ بأمره؛ فهو ظاهرٌ عليه، أي: قويٌّ عليه، وجملٌ ظَهير، أي: قويٌ شَدِيد.
وقال الخطابي: هو (الظاهر) بحُجَجه البَاهرة، وبراهينه النَّيرة، وبشواهد أعْلامه الدّالة على ثُبوتِ ربوبيته، وصحّة وحْدانيته. ويكون الظّاهر فوقَ كلِّ شيءٍ بقدرته. ويكون الظُّهور بمعنى: العُلُو. ويكون بمعنى: الغَلَبة. وقال الحليمي: (الظّاهر) ومعناه: البادي بأفْعاله، وهو جَلَّ ثناؤه بهذه الصّفة، فلا يُمكن معها أنْ يُجحد وجوده وينكر ثبوته.
من آثار الإيمان باسم الله “الظاهر”:
1- أنَّ الله تعالى هو الظّاهر؛ الذي ليس فوقه شيءٌ، فهو العَلي الأعْلى، وهذا:” غاية الكَمَال في العُلُو، أنْ لا يكونَ فوقَ العالي شيءٌ مَوجود، والله مَوصوفٌ بذلك”. وجهة العُلو: هي أشرفُ الجهات، كما هو مُستقرٌ في النُّفوس، وقد قرَّر شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عُلوَ الربّ سبحانه بالأدلة العقلية، وذلك مِنْ طُرقٍ؛ فقال:” أحدها: أنْ يُقال: إذا ثبت بالعقل أنه مُباين للمخلوقات؛ وثبتَ أنّ العالم كُري، وأنَّ العُلُو المطلق فوق الكرة، لزم أنْ يكون في العُلو بالضرورة. والقول بأنَّ الفلكَ مُسْتدير؛ هو قول جماهير علماء المسلمين، والنّقل بذلك ثابتٌ عن الصحابة والتابعين، بل قد ذكر أبو الحسين بن المنادي، وأبو محمد بن حزم، وابن الجوزي، وغيرهم: أنه ليس في ذلك خلافٌ بين الصحابة والتابعين؛ وغيرهم مِنْ علماء المسلمين، وقد نازعَ في ذلك طوائف مِنْ أهل الكلام والرأي، من الجهمية والمعتزلة وغيرهم. وقد قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء: 33)،
وقال: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس: 40). وإذا كان الخَصْم قد استدلّ بذلك،كان ذلك حُجةً عليه، فإذا كان العالم كُرِّياً – وقد ثبت بالضرورة أنه: إما مداخلٌ له، وإما مُباين له وليس بمداخل له – وجبَ أنْ يكون مُبايناً له، وإذا كان مبايناً له؛ وجبَ أنْ يكونَ فوقه، إذْ لا فوقَ إلا المحيط وما كان وراءه.
الطريق الثاني: أنْ يقال: علوُ الخالق على المخْلوق؛ وأنه فوقَ العالم؛ أمرٌ مثسْتقر في فِطر العباد، معلومٌ لهم بالضرورة، كما اتفقَ عليه جميع الأمم، إقراراً بذلك وتَصْديقاً، مِنْ غير أنْ يتواطأوا على ذلك ويَتَشاعروا، وهم يُخبرون عن أنفسهم؛ أنّهم يجدون التصديق بذلك في فِطَرهم.
الطريق الثالث: يقال: هم عندما يضطرون إلى قصد الله وإرادته؛ مثلَ قصده عند الدُّعاء والمسْألة، يضطرون إلى توجّه قلوبهم إلى العُلو، فكما أنهم مُضطرون إلى دُعائه وسُؤاله، هم مُضطرون إلى أنْ يوجِّهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يجدون في قلوبهم توجهاً إلى جهة أخرى، ولا اسْتواء الجهات كلّها عندها؛ وخُلو القلوب عن قصدِ جهة من الجهات، بل يجدون قلوبهم مضطرة؛ إلى أنْ تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات.
الطريق الرابع: أنْ يُقال: قوله:”جَهة فوق؛ أشرف الجَهات، خِطَابي” ليس كذلك، وذلك لأنّه قد ثبت بصريح المعقول: أنّ الأمرين المتقابلين إذا كان أحدُهما صفةَ كمال؛ والآخر صفةَ نقص، فإنّ الله يُوصف بالكمال منهما دُون النقص، فلما تقابل الموتُ والحياة؛ وُصِف بالحياة دون الموت، ولمّا تقابل العلمُ والجهل؛ وُصِف بالعلم دُون الجهل، ولما تقابل القُدرة والعَجز؛ وُصِف بالقُدرة دون العَجْز، ولما تقابل الكلام والبُكم؛ وُصف بالكلام دون البُكم، ولما تقابل السَّمع والبَصَر؛ والصّمم والعَمى، وُصف بالسَّمع والبصر؛ دون الصّمم والعمى، ولما تقابل الغِنى والفَقْر؛ وصف بالغِنى دون الفَقر، ولما تقابل الوُجُود والعدم؛ وُصِف بالوجود دُون العدم، ولما تقابل المباينة للعالم والمُداخلة له؛ وُصِف بالمُباينة دون المُداخلة، وإذا كان مع المباينة؛ لا يخلو إما أنْ يكونَ عالياً على العَالَم، أو مُسامتاً له، وجبَ أنْ يُوصف بالعُلُو؛ دون المُسَامتة، فَضلاً عن السُّفُول. والمنازع يُسلِّم أنه مَوصوفٌ بعُلو المكانة؛ وعُلو القَهْر، وعُلو المكانة معناه: أنه أكملُ مِنَ العالم، وعُلو القهر مضمونه أنه قادرٌ على العالَم، فإذا كان مبايناً للعالَم، كان مِنْ تمام عُلوه؛ أنْ يكونَ فوقَ العالم، لا مُحاذياً له، ولا سَافلاً عنه، ولما كان العُلو صفة كمال، كان ذلك مِنْ لوازم ذاته، فلا يكون مع وُجُود غيره إلا عالياً عليه، لا يكون قَطُّ غير عالٍ عليه.
كما ثبتَ في الصَّحيح، الذي في صحيح مسلم وغيره: عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه:” أنتَ الأولُ فليسَ قبلكَ شيءٌ، وأنتَ الآخرُ فليسَ بعدَك شيء، وأنتَ الظّاهرُ فليسَ فوقَك شيءٌ، وأنتَ الباطنُ فليس دُونك شيء”. ثم بيّن رحمه الله؛ أنه مع ثُبوت نُزُوله إلى السَّماء الدُّنيا – كما في الحديث الصحيح – فهو (الظّاهر) فلا يعلوه شيءٌ مِنْ مخلوقاته أبداً، فقال: “ولهذا كان مذهبُ السَّلف والأئمة؛ أنه مع نزوله إلى سَماء الدُّنيا؛ لا يزال فوقَ العرش، لا يكونُ تحتَ المخلوقات، ولا تكونُ المخلوقات محيطةٌ به قطّ؟! بل هو العَليُّ الأعْلى: العليُّ في دُنوه، القَريب في عُلوِّه. ولهذا ذكر غيرُ واحدٍ إجماع السّلف: على أنَّ الله ليس في جَوف السَّموات. ولكنْ طائفةٌ مِنْ الناس قد يقولون: إنّه في جَوف السماء؟ وإنه قد تُحيط به المخْلوقات؛ وتكون أكبرُ منه؟! وهؤلاء ضلاَّل جهَّال، مخالفون لصَريح المعقول؛ وصحيح المنقول، كما أنَّ النُّفاة الذين يقولون: ليس داخلَ العالم ولا خارجه؛ جهَّالٌ ضُلاَّل، مُخالفون لصَريحِ المعقول؛ وصحيح المنقول؛ فالحُلولية والمعطِّلة؛ مُتقابلان.
الطريق الخامس: أنْ يقال: إذا كان مبايناً للعالم: فإما أن يُقدَّر محيطاً به، أو لا يقدَّر محيطاً به، سواء قُدِّر أنه محيطٌ به دائماً، أو محيطٌ به بعض الأوقات، كما يقبض يوم القيامة الأرض؛ ويطوي السموات، فإن قُدِّر محيطاً به؛ كان عالياً عليه؛ علو المحيط على المحاط به. وقد تقدّم قولهم:” إنّ الفُلكَ كُريٌ” فيلزم أنْ تكونَ الأفلاك محيطة بالأرض، وهي فوقها باتفاق العلماء، فما كان مُحيطاً بالجميع؛ أولى بالعُلو والارْتفاع، سبحانه وتعالى، وإنْ لم يكنْ مُماثلاً لشيءٍ مِنَ المخلوقات، ولا مَجانساً للأفْلاك ولا غيرها. ومن المعلوم أنّ جهة العُلو أحقّ بالاختصاص، لأنّ الجهة العالية؛ أشرف بالذّات مِنَ السّافلة، ولهذا اتفق العلماء على أنّ جِهة السموات؛ أشرف مِنْ جهة الأرض، وجهة الرأس أشرف من جهة الرِّجل، فوجب اختصاصه بخير النوعين وأفضلهما، إذْ اختصاصه بالناقص المرجوح؛ ممتنع”.
2- وردَّ رحمه الله بعد ذلك؛ على شبهةٍ تُثار في مثل هذا الموضع من أهل التعطيل، فقال: ” وأما قول النافي:” ولأن العالم كُرة، فلا فوق إلا تحت بالنسبة”.
فيقال له: هذا خطأ، لما تقدم من أنّ المحيط باتفاق العقلاء عالٍ على المَرْكز، وأنّ العقلاء متفقون على أنّ الشمسَ والقمر والكواكب، إذا كانت في السماء، فلا تكون إلا فوق الأرض، وكذلك السحاب والطير في الهواء. وأيضاً: فإنَّ هذا التَّحتَ أمرٌ خياليٌ وهمي؛ لا حقيقة له، وليس فيه نقصٌ، كالمعلَّق برجليه لا تكون السماء تحته؛ إلا في الوهم الفاسد، والخيال الباطل، وكذلك النّملة الماشية تحت السقف؛ فالشمس والقمر والنجوم السابحة في أفلاكها، لا تكون بالليل تَحتنا، إلا في الوَهم، والخيال الفاسد.
3- ولزيادة البيان في مسألة” نزول الرب تبارك وتعالى” وأنّ ذلك لا ينافي اسمه (الظاهر) لا أجدُ أحسن مما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك أيضاً، إذْ يقول:” والأحسن في هذا الباب (أي باب الأسماء والصفات) مُراعاة ألفاظ النصوص؛ فيُثْبتُ ما أثبتَ الله ورسوله؛ باللفظ الذي أَثْبته، ويُنفى ما نفاه الله ورسوله؛ كما نفاه، وهو أن يُثبت النُّزول، والإتْيان، والمَجيء، ويُنفى المثل، والسّمي والكفؤ، والندّ. وبهذا يحتج البخاري وغيره على نَفْي المِثل، يقال: ينزل نزولاً ليس كمثلهِ شيءٌ، نزلَ نزولاً لا يُماثل نزول المخلوقين؛ نزولاً يختصُّ به، كما أنّه في ذلك؛ وفي سائر ما وَصَف به نفسه؛ ليس كمثله شيء في ذلك، وهو منزهٌ أنْ يكون نزوله كنزول المخلوقين، وحركتهم وانتقالهم، وزوالهم مطلقاً؛ لا نزول الآدميين ولا غيرهم. فالمخلوق إذا نزلَ من علوٍ إلى سفل؛ زال وَصْفه بالعُلو، وتبدّل إلى وصفه بالسُّفول، وصار غيرُه أعْلى منه. والرَّبُّ تعالى لا يكونُ شيءٌ أعلى منه قط، بل هو العلي الأعلى، ولا يزال هو العلي الأعلى، مع أنه يَقرُبُ إلى عباده؛ ويدنو منهم، وينزلُ إلى حيثُ شاء، ويأتي كما شاء، وهو في ذلك: العليُّ الأعلى، الكبير المتعالي، عليٌّ في دنوِّه، قريبٌ في علوِّه. فهذا وإنْ لم يتصف به غيره، فلعجز المخلوق أنْ يجمع بين هذا وهذا، كما يعجز أن يكون هو الأول والآخر والظاهر والباطن. ولهذا قيل لأبي سعيد الخراز: بم عرفتَ الله؟ قال:” بالجمع بين النقيضين”. وأراد أنه يجتمع له ما يتناقض في حقّ الخَلق. كما اجتمعَ له أنه خالق كل شيء من أفعال العباد؛ وغيرها من الأعيان والأفعال؛ مع ما فيها من الخبث، وأنه عدلٌ حكيمٌ، رحيمٌ، وأنه يُمكِّن من مكَّنه من عباده من المعاصي؛ مع قدرته على منعهم وهو في ذلك حكيمٌ عادل، فإنه أعلمُ الأعلمين، وأحْكمُ الحاكمين، وهو خيرُ الفاتحين، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. فأنْ لا يُحيطوا علماً بما هو أعظم في ذلك؛ أوْلى وأحرى، وقد سَألوا عن الرُّوح، فقيل لهم: (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء: 85).
وفي الصحيحين: أنّ الخضر قال لموسى؛ لما نقر عصفورٌ في البحر: ما نقص علمي وعلمك من علْم الله ، إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر. فالذي يُنفى عنه وينزه عنه، إما أنْ يكون مناقضاً لما عُلمَ من صفاته الكاملة، فهذا ينفى عنه جنسه، كما قال: (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) (البقرة: 255). وقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) (الفرقان: 58). فجنس السِّنة والنوم، والموت، ممتنعٌ عليه، لا يجوز أنْ يُقال في شيء من هذا” إنه يجوز عليه كما يليق بشأنه”، لأنّ هذا الجنس؛ يُوجب نقصاً في كماله. وكذلك لا يجوز أنْ يُقال: هو يكون في السُّفل، لا في العُلو؛ وهو سُفول يليق بجلاله !! فإنه سبحانه العلي الأعلى، لا يكون قط إلا عالياً، والسفول نقص هو منزهٌ عنه. وقوله:” وأنتَ الباطن فليس دونك شيء” لا يقتضي السُّفول، إلا عند جاهلٍ لا يعلم حقيقة العُلو والسُّفول، فيظن أنّ السموات وما فيها؛ قد تكون تحت الأرض؟ إما بالليل وإما بالنهار؟! وهذا غلطٌ، كمن يظن أنّ ما في السماء من المشرق؛ يكون تحت ما فيها مما في المغرب، فهذا أيضاً غلط. بل السّماء لا تكون قطُّ إلا عالية على الأرض، وإنْ كان الفلك مستديراً محيطاً بالأرض، فهو العالي على الأرض؛ علواً حقيقياً من كلِّ جهة. وهذا مبسوطٌ في مواضع.
من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي