معنى “الشهيد” في اللغة:
قال الزجاج: الشهيدُ الحاضر، يقال شهدتُ الشيءَ، وشهدت به، وأصل قولهم: شهدت به، من الشهادة التي هي الحضور.
واليوم المشهود: يوم القيامة؛ لأنه معلومٌ كونه لا محالة، فكان معنى الشهيد: العالِم.
وقال الزجاجي: الشهيد في اللغة بمعنى الشاهد، كما أنّ العليم بمعنى العالم، والرحيم بمعنى الراحم، والشاهد خلاف الغائب، كقول العرب: فلان كان شاهداً لهذا الأمر، أي: لم يغب عنه.
وقال ابن سيده: الشاهد العالم الذي يُبين ما عَلِمَه.
اسم الله “الشهيد” في القرآن الكريم:
ورد هذا الاسم في القرآن ثماني عشرة مرة، منها:
قوله تعالى: (وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة: 117).
وقوله: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) (الأنعام: 19).
وقوله: (اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحج:17).
وقوله: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (سبأ: 47).
وقوله: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة: 6).
وقوله: (لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّـهِ شَهِيداً) (النساء: 166).
وقوله: (قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (الإسراء: 96).
معنى “الشهيد” في حق الله تبارك وتعالى:
قال ابن جرير: (وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): وأنتَ تَشْهد على كلّ شيء؛ لأنه لا يَخْفى عليك شيء. وقال في: (وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة: 6) والله على حَقيقة ما أقولُ لكم؛ شهيدٌ يشهد لي به، وعلى غير ذلك من الأشياء كلها.
وقال الزجاجي: فالله عز وجل لما كانت الأشياء لا تخفى عليه، كان شهيداً لها وشاهداً لها، أي: عالماً بها وبحقائقها، علم المشاهدة لها؛ لأنه لا تخفى عليه خافية.
وقال الخطابي: هو الذي لا يغيب عنه شيء، يقال: شاهدٌ وشهيد، كعالم وعليم، أي: كأنه الحاضر الشاهدُ الذي لا يعزبُ عنه شيء، وقد قال سبحانه: (فمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: 185)، أي: مَنْ حَضر منكم الشهرَ؛ فليَصمه.
ويكون الشهيد بمعنى: العليم، كقوله: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ) (آل عمران: 18)، قيل معناه: علمَ الله، وقال أبو العباس أحمد بن يحيى، معناه: بيَّن الله أنه لا إله إلا هو.
وهو أيضاً الشاهد للمظلوم؛ الذي لا شاهد له ولا ناصر، على الظالم المعتدي؛ الذي لا مانع له في الدنيا، لينتصف له منه. اهـ .
وفي المقصد:”الشهيد” يرجع معناه إلى”العليم” مع خصوص إضافة، فإنه تعالى عالم الغيب والشهادة، والغيب عبارة عما بطن، والشهادة عما ظهر، وهو الذي يشاهد.
فإذا اعتبر العلم مطلقاً؛ فهو العليم. وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة؛ فهو الخبير. وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد. وقد يعتبر مع هذا؛ أنْ يَشهدَ على الخَلق يوم القيامة؛ بما علم وشاهد منهم. والكلام في هذا الاسم؛ يقرب من الكلام في”العليم والخبير” فلا نُعيده.
وقال السعدي:”الشهيد” أي: المطّلع على جميع الأشياء، سَمِع جميعَ الأصوات؛ خفيها وجليَّها، وأبصرَ جميع الموجودات؛ دقيقها وجَليلها، صغيرها كبيرها، وأحاطَ علمه بكلِّ شيء، الذي شهِد لعباده؛ وعلى عباده بما عملوه.
من آثار الإيمان باسم الله “الشهيد”:
1- إن الله عز شأنه هو عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء وإن دقَّ وصغر، فهو سبحانه شهيد على العباد وأفعالهم، ليس بغائب عنهم، كما قال سبحانه (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ) (الأعراف: 6 – 7).
قال الأصبهاني: فينبغي لكلِّ عاملٍ أراد عملاً؛ صَغُرَ العملُ أو كَبُر، أنْ يقف وقفةً عند دخوله فيه، فيعلم أنَّ الله شهيدٌ عليه؛ فيُحاسب نفسه، فإنْ كان دخوله فيه لله: مضى فيه، وإلا ردَّ نفسه عن الدخول فيه؛ وتركه.
وقال تعالى: (ومَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (يونس: 61).
فهو يقضي بين عباده بعلمه وسمعه وبصره، الذي لم يفارقهم في الدنيا طَرفة عين، ولا يحتاج سبحانه إلى الشُّهود؛ لأنه على كل شيءٍ شهيد، كما جاء في جواب عيسى عليه السلام لربه يوم القيامة؛ في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (المائدة: 116 – 117).
ففيها أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام يتبرأ يوم العَرض من عبّاد الصّليب، الذين اتخذوه وأمه إلهين مع الله؛ تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً، بقوله: سُبحانك ! ما أمرتهم بهذا، وما يكون لي أنْ أنطق به، وإنما أمرتهم بعبادتك وحدك لا شريك لك، وأنا إنّما عاينتُ وشهدتُ مِنْ أعمالهم ما عملوه؛ وأنا بينَ أظهرهم، فأما ما وَقع بعد إذْ رفعتني، فإني لم أشْهده ولم أعْلمه، وأنتَ قد علمته وشهدته، وأنتَ على كلِّ شيءٍ شهيد، ولا يغيبُ عنك شيء.
2- الله سبحانه وتعالى أعظمُ شيءٍ شهادة، كما قال سبحانه: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام: 19)، فإنَّ شهادتَه سبحانه لا غَلطَ فيها؛ ولا ظلم تعالى عن ذلك.
قال ابن جرير: يقولُ الله تعالى ذِكره لنبيه محمد ﷺ؛ قلْ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يُكذّبون؛ ويَجحدون نَبُوتك مِنْ قومك: أيُّ شيءٍ أعظمُ شهادة وأكبر، ثم أخبرهم بأنَّ أكبرَ الأشياء شهادةً: الله، الذي لا يجوز أنْ يقعَ في شهادتِه، ما يجوز أنْ يقعَ في غيره من خَلقه، مِنَ السّهو والخَطأ والغَلط والكذب. ثم قلْ لهم: إنّ الذي هو أكبرُ الأشياء شهادةً، شهيدٌ بيني وبينكم؛ بالمحقّ منّا من المُبطل، والرشيد منّا في فعله وقوله؛ مِنَ السَّفيه، وقد رَضِينا به حَكَماً بيننا. اهـ .
3- شهدَ الله سبحانه وتعالى لنَفْسه؛ بأنه واحدٌ أحَد، فردٌ صَمد، لا شريكَ له ولا وَزير، ولا نَدّ ولا نظير، وشَهِد ملائكته؛ وأولوا العلم بذلك، كما في قوله جلَّ شأنه: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18).
فتضمّنت هذه الآية أعظم شَهَادةٍ؛ مِنْ أعظم شهيد.
قال ابن القيم رحمه الله: تضمّنت هذه الآية الكريمة: إثباتَ حقيقة التوحيد، والردّ على جميع هذه الطوائف – التي فصّل عقائدها الباطلة قبلَ هذا – والشهادة ببطلان أقوالهم، ومذاهبهم، وهذا إنما يتبيّن بعد فَهْم الآية، ببيان ما تضمَّنته مِنَ المَعَارف الإلهية، والحقائق الإيمانية.
فتضمّنتْ هذه الآية: أجلّ شهادةٍ وأعْظمها، وأعْدلها وأصدقها، مِنْ أجلّ شاهدٍ، بأجلّ مَشْهود. وعبارات السلف في”شهيد” تَدُور على: الحُكْم والقَضَاء؛ والإعْلام والبيان والإخْبار.
4- يجوز إطْلاق هذا الاسْم على الخَلْق: فقد سمّى اللهُ عزَّ وجل الرسولَ ﷺ وأمَّته بذلك؛ في آيات:
منها قوله سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143). وقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) (النساء: 41) وغيرهما. وسمّاهم الله تعالى شهداء، لأنّهم يشهدون على الأمم يوم القيامة. ومَنْ قُتِل في سبيل الله تعالى؛ يُسَمّى بالشهيد. وسمّى اللهُ تعالى الإنسانَ عموماً بالشّهيد، مِنْ جِهة أنه يشهدُ على نَفْسه، ويَعْلمُ منها ما لا يَعْلمه غيره، في قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) (العاديات: 6- 7).
من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي.