يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي -رحمه الله تعالى-:
أولا: أحمد الله تعالى أن وفقني منذ أوائل حياتي الفكرية والدعوية لتبني المنهج الوسط الذي يقوم على النظرة المعتدلة والشاملة، ويبتعد عن الإفراط والتفريط، وقد بينت منهجي هذا في مقدمة الكتاب نفسه (الحلال والحرام) في أول طبعة له حين قلت:
وربما بدا موضوع (الحلال والحرام) سهلاً لأول وهلة، ولكنه في الواقع صعب المرتقي، فلم يسبق لمؤلف في القديم أو الحديث، أن جمع شتات هذا الموضوع في كتاب خاص، ولكن الدارس يجد أجزاءه موزعة في أبواب الفقه الإسلامي كلها، وبين ثنايا كتب التفسير والحديث النبوي.
منهجي في الكتاب:
إن موضوعًا كهذا يضطر الكاتب إلى أن يحدد موقفه من أمور كثيرة اختلف في حكمها علماؤنا القدامى، واضطربت فيها وفي تعليلها آراء المحدثين.
وترجيح رأي على غيره في مسائل الحلال والحرام يحتاج إلى أناة وطول بحث ومراجعة، بعد أن يتجرد الباحث لله في طلب الحق، جهد الإنسان.
وقد رأيت معظم الباحثين العصريين في الإسلام، والمتحدثين عنه يكادون ينقسمون إلى فريقين:
فريق خطف أبصارهم بريق المدنية الغربية، وراعهم هذا الصنم الكبير، فتعبدوا له، وقدموا إليه القرابين، ووقفوا أمامه خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، هؤلاء الذين اتخذوا مبادئ الغرب وتقاليده قضية مسلمة لا تعارض ولا تناقش، فإن وافقها الإسلام في شيئ هللوا وكبروا، وإن عارضها في شيئ وقفوا يحاولون التوفيق والتقريب، أو الاعتذار والتبرير، أو التأويل والتحريف، كأن الإسلام مفروض عليه أن يخضع لمدنية الغرب وفلسفته وتقاليده، ذلك ما نلمسه في حديثهم عما حرم الإسلام من مثل: التماثيل واليانصيب، والفوائد الربوية، والخلوة بالأجنبية، وتمرد المرأة على أنوثتها، وتحلي الرجل بالذهب والحرير. . . الخ ما نعرف. وفي حديثهم عما أحل الإسلام من مثل: الطلاق وتعدد الزوجات، كأن الحلال في نظرهم ما أحله الغرب، والحرام ما حرمه الغرب، ونسوا أن الإسلام كلمة الله، وكلمة الله هي العليا دائمًا، فهو يُتبع ولا يَتبع، ويَعلو ولا يُعلى، وكيف يتبع الربُّ العبدَ أم كيف يخضع الخالق لأهواء المخلوقين؟ (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن) (المؤمنون: 71). (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبَع أمن لا يَهِدِّي إلا أن يُهدى فمالكم كيف تحكمون) (يونس: 35). هذا فريق.
والفريق الثاني جمد على آراء معينة في مسائل من الحلال والحرام، تبعًا لنص أو عبارة في كتاب، وظن ذلك هو الإسلام، فلم يتزحزح عن رأيه قيد شعرة، ولم يحاول أن يمتحن أدلة مذهبه أو رأيه، ويوازنها بأدلة الآخرين ويستخلص الحق بعد الموازنة والتمحيص.
فإذا سئل عن حكم الموسيقى، أو الغناء، أو الشطرنج، أو تعليم المرأة أو إبداء وجهها وكفيها، أو نحو ذلك من المسائل، كان أقرب شيئ إلى لسانه أو قلمه كلمة: حرام، ونسي هذا الفريق أدب السلف الصالح في هذا حيث لم يكونوا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعًا، وما عدا ذلك قالوا فيه: نكره، أو لا نحب، أو نحو هذه العبارات.
وقد حاولت ألا أكون واحدًا من الفريقين:
فلم أرض لديني أن أتخذ الغرب معبودًا لي، بعد أن رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد -ﷺ- رسولاً.
ولم أرض لعقلي أن أقلد مذهبًا معينًا في كل القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب، فإن المقلد – كما قال ابن الجوزي -: (على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنه خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة) (تلبيس إبليس ص81).
أجل لم أحاول أن أقيد نفسي بمذهب فقهي من المذاهب السائدة في العالم الإسلامي، ذلك أن الحق لا يشتمل عليه مذهب واحد وأئمة هذه المذاهب المتبوعة لم يدعوا لأنفسهم العصمة، وإنما هم مجتهدون في تعرف الحق، فإن أخطأوا فلهم أجر وإن أصابوا فلهم أجران.
قال الإمام مالك: (كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي -ﷺ-)، وقال الإمام الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
وغير لائق بعالم مسلم يملك وسائل الموازنة والترجيح أن يكون أسير مذهب واحد، أو خاضعًا لرأي فقيه معين، بل الواجب أن يكون أسير الحجة والدليل فما صح دليله وقويت حجته، فهو أولى بالاتباع، وما ضعف سنده، ووهت حجته فهو مرفوض مهما يكن من قال به، وقديمًا قال الإمام على -رضي الله عنه-: (لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله).
ثانيًا: أحمد الله تعالى حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وجزيل نعمه التي لا أحصيها، والتي لم أقم بأقل القليل من شكرها.
ومن هذه النعم أن منح الله الكريم الوهاب كتبي القبول عند المسلمين حيثما كانوا، وهذا من فضل ربي عليّ، وإحسانه إليّ، تباركت آلاؤه، وتقدست أسماؤه، حتى إن كتابي (الحلال والحرام) قد بلغت طبعاته – بالعربية – حوالي الأربعين، ذلك أنه يطبع في عدة أماكن، ويصدر من عدة جهات: القاهرة ولبنان والجزائر والمغرب، والكويت، وغيرها. .
هذا بالإضافة إلى ترجمته إلى عدد من اللغات مثل: التركية، والأوردية والماليزية، والأندونيسية والفارسية والبنغالية، أو الماليبارية، والسواحلية، والإنجليزية والألمانية والصينية وغيرها. . .
تخريج أحاديث الكتاب تكريم له:
ثالثًا: لا شك أن تخريج العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – حفظه الله – لأحاديث كتابي: (الحلال والحرام) هو نوع من التكريم للكتاب وصاحبه، فعلماء الحديث من قديم لا يخرجون أحاديث الكتب التافهة أو المغمورة، إنما يخرجون الكتب التي لها قيمة ووزن علمي، وشهرة عند أهل العلم وجماهير الناس.
ولهذا نجد مثل الحافظ الزيلعي يخرج أحاديث كتاب: (الهداية) في الفقه الحنفي في كتاب: (نصب الرواية) لمنزلة الكتاب وشهرته عند علماء الحنفية، وكذلك فعل الحافظ ابن حجر في تخريج الهداية ثم في تخريج (فتح العزيز)، أو الشرح الكبير للرافعي، على (الوجيز) للغزالي في فقه الشافعي، وذلك في كتابه المعروف بـ (تلخيص الحبير)، وكذلك خرج أحاديث (الكشاف) للزمخشري.
ومثل ذلك ما صنعه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث: (إحياء علوم الدين) للغزالي.
وكتب أخرى كثيرة معروفة عند أهل الاختصاص.
ولهذا سرني أن يعني المحدث المعروف الشيخ الألباني-رحمه الله تعالى- من زمن بعيد بتخريج أحاديث كتابيّ: (الحلال والحرام)، و(مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام).
كما خرج كذلك أحاديث كتاب: (فقه السيرة) للداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي.
وقد رأيت كتاب الشيخ الألباني-رحمه الله تعالى-: (غاية المرام) ورأيت ما حكم عليه بالضعف من الأحاديث.
وأود أن أسجل هنا بعض الملاحظات المهمة:
بعض الأحاديث يذكر للاستئناس لا للاحتجاج:
الأولى: أنني قد أذكر بعض الأحاديث الضعيفة للاستئناس بها لا للاحتجاج بها. والاعتماد عليها وحدها في الاستدلال.
فكثيرًا ما يكون الحكم ثابتًا بأدلة أخرى من النصوص الثابته، أو القواعد المقررة ثم يذكر الحديث هنا – وإن كان ضعيفًا – للاستئناس كما قلت، وهذا ما لم يتحرز منه أحد من السابقين فيما أعلم.
ومن قرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه المحقق ابن القيم يجد فيها الكثير الكثير من ذلك.
بل الإمام البخاري نفسه، مع ما عرف عنه من التشدد في رفض الضعيف يذكر في جامعه الصحيح، بعض الأحاديث المعلقة الضعيفة وهي ما يرويه بغير صيغة الجزم، مثل قوله: قيل وروي ويذكر، ونحو ذلك.
وهذا ما صنعته في بعض الأحيان، فإذا ذكرت حديثًا مثل: “تنظفوا فإن الإسلام نظيف” فهذا – وإن كان ضعيفًا – لا يثبت به حكم، فأمر النظافة ثابت بمحكمات القرآن والسنة.
مرحلة التقليد للمتقدمين:
الثانية: هناك أحاديث اعتمدت فيها على تصحيح أو تحسين المتقدمين من أئمة الحديث، وفقهاء السنة، وأعترف أني لم أناقشهم فيما صنعوا، بل كنت مقلدًا لهم، ناقلاً عنهم، ولا غرابة أن يأخذ رجل الفقه عن رجل الحديث، فلم يوجد عالم أحاط خبرًا بكل علم.
وهنا قد يظهر في الحديث علة يلحظها المتأخر، غابت عن المتقدم وكم ترك الأول للآخر!
مثال ذلك: أني اعتمدت على تحسين الحافظ ابن حجر لحديث “من حبس العنب أيام القطاف، حتى يبيعه من يهودي أو نصراني، أو ممن يتخذه خمرًا، فقد تقحم النار على بصيرة”.
فقد ذكره في كتابه: (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) وقال: رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
وابن حجر هو أمير المؤمنين في الحديث، ونادرة الدنيا في الحفظ والاستيعاب، فإذا قلدته أو قلده غيري فليس بملوم، وإذا استدرك عليه من بعده فليس هو بمعصوم.
وقد رأيت العلامة الصنعاني شرح الحديث في (سبل السلام) وسكت على تحسين الحافظ، كما ذكره العلامة صديق حسن خان في (الروضة الندية) وقال: (وإسناده حسن كما قال الحافظ، وأخرجه أيضًا البيهقي وزاد: “أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرًا” ويؤيده حديث أبي أمامة عند الترمذي أن رسول الله -ﷺ- قال: “لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام” وفي الباب أحاديث. وأخرج مالك عن ابن عمر: أن رجالاً من أهل العراق قالوا: يا أبا عبد الرحمن إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب فنعصره خمرًا، فنبيعها! فقال عبد الله بن عمر: إني أشهد الله عليكم وملائكته، ومن سمع من الجن والإنس: أني لا آمركم أن تبيعوها، ولا تبتاعوها، ولا تعصروها، ولا تسقوها، فإنها رجس من عمل الشيطان قلت: وعليه أهل العلم) (الروضة الندية 2/99). أ. هـ.
هذا ما غرني بالحديث المذكور، وجعلني أقبله تقليدًا كما قلت، إذ كنت في مرحلة التقليد المطلق في الحديث، ولم أبدأ البحث في أمر الحديث، والخروج جزئيًا من إسار التقليد فيه، إلا عندما بدأت أكتب في فقه الزكاة.
ثم جاء العلامة الألباني-رحمه الله تعالى-، وبين أن الحديث ضعيف جدًا بسبب أحد رواته، وهو الحسن بن مسلم المروزي التاجر (وقد ذكر الهيثمي الحديث في (مجمع الزوائد) ونسبه إلى الطبراني في الأوسط، وقال: فيه عبد الكريم بن عبد الكريم، قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب 4/90.
حصر الحافظ الهيثمي آفة الحديث في عبد الكريم هذا.
والحافظ ابن حجر ترجم لعبد الكريم هذا في (لسان الميزان) وذكر فيه قول أبي حاتم، ثم قال: وبقية كلامه لا أعرفه، وفي ثقات ابن حبان: عبد الكريم بن عبد الكريم البجلي عن عبد الله بن عمر، وعنه جبارة بن المغلس: مستقيم الحديث. فالظاهر أنه هو، ولعل ما أنكره أبو حاتم من جهة صاحبه جبارة، ويؤيده أن أبا حاتم قال قبل ذلك: لا أعرفه. أ هـ من لسان الميزان 2/256).، قال الذهبي في (الميزان): أتى بخبر موضوع في الخمر. قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب، وقال ابن حبان: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد ثنا عبد الكريم بن عبد الكريم (الأصل: عبد الله) السكري ثنا الحسن بن مسلم التاجر. . . قلت: فذكر الحديث. . وعلق الشيخ على تحسين ابن حجر بقوله: وهم لا أدري من أين منشؤه، فإنه وَهْم فاحش من مثله!
والعجيب أني رأيت الحافظ ابن حجر ذكر الحسن بن مسلم المروزي – وهو آفة هذا الحديث – فذكر ما ذكره الذهبي في (الميزان) وكلام ابن أبي حاتم وابن حبان بالحرف! وسبحان من تفرد بالكمال.
تضعيف الشيخ قابل للمناقشة:
الثالثة: أن الشيخ الألباني – في رأيي – هو أشهر علماء الحديث في عصرنا وخصوصًا في فن التخريج والتوثيق والتضعيف، ومع هذا ليست كلمته هي النهائية في كل حديث يصححه أو يضعفه، فقد يخالفه غيره من علماء العصر، كالشيخ العلامة حبيب الرحمن الأعظمي، والشيخ شعيب الأرناءوط، والشيخ عبد الفتاح أبي غدة وغيرهم.
ولا غرابة أن يخالفوه كما خالف هو من قبله من الكبار في بعض الأحاديث، وقد يتخذ بعضهم نهجًا في التصحيح غير نهجه، كما كان العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله.
فحكم الشيخ بتضعيف حديث ليس هو الحجة القاطعة، والكلمة الفاصلة.
بل أقول: إن الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- قد يضعف الحديث في كتاب، ويصححه في كتاب آخر.
وهذا ما رأيته بالنسبة لحديث: “ما من مسلم يقتل عصفورًا فما فوقها، بغير حقها، إلا سأله الله عز وجل عنها”، قيل: يا رسول الله، وما حقها، قال: “يذبحها، فيأكلها ولا يقطع رأسها ويرمي بها” رواه النسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد من حديث عبد الله بن عمرو. فقد ضعفه في (تخريج الحلال والحرام) حديث رقم (47).
ومثله حديث: “من قتل عصفورًا عبثًا، عج إلى الله يوم القيامة، يقول: يا رب إن فلانًا قتلني عبثًا، ولم يقتلني منفعة” رواه النسائي وابن حبان في صحيحه من حديث الشريد. وقد ضعفه الشيخ أيضًا في الحديث (46).
وقد خالفته في تعليقي على الحديثين في كتابي (المنتقى من الترغيب والترهيب) للإمام المنذري، فقلت عن حديث عبد الله بن عمرو: رواه النسائي.
وقد قال الحافظ ابن حجر في التلخيص في تخريج حديث “من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين” الذي أعله ابن الجوزي: كفاه قوة تخريج النسائي له. وقد رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (4/233)، والحديث رواه أحمد أيضًا في المسند برقم (6551) وبأخصر منه برقم (6550) وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وخالف هؤلاء جميعًا العلامة الألباني فضعف الحديث في تخريجه للحلال والحرام، بسبب رواية صهيب مولى ابن عامر الحذاء، بدعوى أنه مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير، فلم يذكر فيه جرحًا، وفرق أبو حاتم بينه وبين أبي موسى الحذاء فترجم الأول ولم يذكر فيه جرحًا، وقال عن الثاني: لا يعرف ولا يسمى وهمًا عند غيره شخص واحد معروف مسمى، وفيه أن الثوري روى عن حبيب بن أبي ثابت عنه، وترجمه الذهبي في (الميزان) فذكر أن بعضهم قواه، وقد روى حديثه شعبة، على تشدده في الرجال.
والحديث رواه الطيالسي أيضًا في مسنده برقم (2279) عن شعبة وابن عيينة، ورواه من طريقه البيهقي في السنن الكبرى (9/279)، والدارمي في سننه (2/84)، والحميدي في مسنده الحديث رقم (587) بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
وقلت عن حديث الشريد: هو في النسائي (7/239) ط المطبعة المصرية بالأزهر، وفي موارد الظمآن (1071)، باب النهي عن الذبح لغير منفعة، ورواه أيضًا أحمد (4/389) وهذا الحديث يشهد للحديث قبله، وقد صححه ابن حبان، وأقره المنذري، ولكن الألباني ضعفه أيضًا؛ لأنه من طريق عامر الأحول من صالح بن دينار، بدعوى أن صالحًا مجهول، وعامر ضعيف لسوء حفظه.
والأول ذكره ابن حبان في الثقات، وقد نقل الآجري عن أبي داود ما يدل على أن معمرًا روى عنه أيضًا وكناه بـ- (أبي شعيب). ولم يذكره الذهبي في الضعفاء
والثاني – وهو عامر الأحول – لينه أحمد، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن معين ليس به بأس، وقال أبو حاتم ثقة لا بأس به، وقال ابن عدي: لا أرى برواياته بأسًا، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال الساجي: يحتمل لصدقه وهو صدوق (تهذب التهذيب).
ولخص هذا الحافظ في تقريبه، فقال: صدوق يخطئ، ولم يصفه بأنه كثير الخطأ أو فاحشه، ومثل هذا لا يرد حديثه بإطلاق ولكن ينتقى منه، وهذا ما صنعه النسائي، فقد قال فيه: ليس بالقوي، وروى عنه في (مجتباه) الذي قالوا: إن شرطه فيه أقوى من شرط أبي داود والترمذي، وذكره الذهبي في الضعفاء فقال: لينه أحمد وغيره، ووثقه أبو حاتم ومسلم، هذا وقد أخرج له مسلم في صحيحه فضلاً عن أصحاب السنن.
والعجيب أني رأيته بعد ذلك في الجزء الأول من كتابه: (صحيح الترغيب والترهيب) ذكر حديث عبد الله بن عمرو محكومًا عليه بالحسن! انظر الحديث رقم (1084).
وهكذا سرعان ما يتغير اجتهاد الشيخ في التصحيح والتضعيف، حتى إن هناك اختلافًا بين الطبعة الأولى من صحيح الجامع الصغير وزيادته، وضعيف الجامع الصغير وزيادته، وبين الطبعة الثانية منهما، فقد حدث نقل بعض الأحاديث من هذا الكتاب إلى ذاك بالعكس.
وهذا لا ينكر على الشيخ، بل يذكر له ويشكر؛ لأنه يرجع إلى الحق إذا تبين له، بالعثور على طريق أخرى للحديث، أو الاطمئنان إلى راو لم يكن مطمئنًا إليه من قبل، أو ظهور علة قادحة في سند الحديث أو متنه، أو غير ذلك، والمقصود أن هذا المجال قابل للاجتهاد واختلاف الآراء، وقد يتنبه المفضول إلى ما يفوت الفاضل.
تضعيف حديث مّا لا يسقط القضية كلها:
الرابعة: كثيرًا ما أذكر الحديث – في مسألة من المسائل – من باب تضافر الأدلة، فلا يكون هو العمدة، بل يكون العمدة آية، أو حديثًا آخر صحيحًا أو حسنًا، أو قاعدة من القواعد الكلية، والحديث تقوية وتعضيد، فهو مؤكد لا مؤسس.
فإذا نظرنا إلى الحديث الذي رواه الدارقطني: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها”.
وقد حكم الشيخ بضعفه، برغم تحسين النووي له، ونظمه في سلك (الأربعين) النووية الشهيرة فهذا لا يضر بالقضية التي سيق من أجلها، وهي: أن الأصل في الأشياء الإباحة.
فليس هذا الحديث هو العمدة في إرساء هذا الأصل، بل العمدة فيه آيات محكمة وأحاديث لا مرية في صحتها، مثل حديث: “ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو”.
فضعف الحديث المذكور لا يعني سقوط القضية كلها، كما قد يتوهم المتعجلون.
وفي موضوع مثل موضوع الاحتكار ذكرت عدة أحاديث في ذم الاحتكار وأهله، العمدة فيها هو الحديث الذي رواه مسلم: “لا يحتكر إلا خاطئ” فلا يضره بعد ذلك ذكر أحاديث أخرى فيها ضعف أو لين، مثل: “من احتكر طعامًا أربعين يومًا فقد برئ من الله، وبرئ الله منه.
على أن هذا الحديث الذي ضعفه الشيخ قد حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح، وفي القول المسدد في الذب عن المسند، ونقله السيوطي في (اللآلئ المصنوعة).
تضعيف حديث بسند ما أو لفظ ما لا يعني تضعيف المتن:
الخامسة: أن الشيخ -حفظه الله- قد يضعف الحديث بلفظه المذكور، ولكن معناه صحيح أو حسن بلفظ آخر، وعند مخرج آخر، أو عن صحابي آخر.
وقد يشير الشيخ إلى ذلك أحيانًا، وبذلك يفيد القارئ.
وأحيانًا لا يشير.
مثال ذلك: حديث (رقم 347) كان النبي -ﷺ- يستعيذ بالله من الدَّين ويقول: “اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال”.
حكم الشيخ بضعفه من حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود، ومن وقف عند كلمة (ضعيف) في تخريج الشيخ، يظن أنها حكم نهائي على الحديث، على حين أنه نبه في النهاية على أن الحديث صحيح، رواه البخاري عن أنس، مع خلاف طفيف في الألفاظ، قال: كنت أسمعه -ﷺ- يكثر أن يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن وضلع الدين، وغلبة الرجال”.
هذا مع أنه حين خرج حديث (374) كان يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن”.
قال في تخريجه: صحيح، ثم بين أنه صحيح عند البخاري، لا عند أبي داود، وهو جزء من الحديث السابق!!
عمل المحدث وعمل الفقيه:
السادس: أن الشيخ الألباني ليس مجرد محدّث محايد، يكتفى بتخريج الحديث، والحكم عليه، تصحيحًا أو تضعيفًا، وينتهي دوره، ولكنه رجل له آراءه وفقهه الخاص، وهذا ينضح على تخريجه شاء أم أبي، كما أنه يتدخل أحيانًا، معلقًا على رأي المؤلف وترجيحاته، بما يتفق ورأيه هو وترجيحه، كما فعل في موضوع الغناء بآلة وبغير آلة.
وهذا التدخل منه أوصل بعمل الفقيه منه بعمل المحدث، ولو أردت التعقيب على تعقيبه أو الرد عليه، لاقتضاني ذلك أن أؤلف كتابًا كاملاً في الموضوع، مناقشًا أدلة المبيحين والمحرمين، ومرجحًا ما أراه أقوى دليلاً وأقوم قيلاً، وقد أفعل ذلك إذا يسر الله تعالي.
هذه بعض الملاحظات المهمة والملازمة على تخريج المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني، على ماله من فضل لا ينكر، أضعها أمام الذين رأوا كتابه وتساءلوا عما ضعفّه من أحاديث.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.