يقول الشيخ الدكتور محمد الحمود النجدي
إن من أشرف المقامات وأعلاها وأسماها مقام العبودية لله رب العالمين وهي الغاية التي خلق الله عز وجل من أجلها الخلق أجمعين قال سبحانه وتعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )سورة الذاريات.
الإنشغال بالعبادة؟
من اشتغل بهذه الغاية علا مكانه وارتفع شأنه، لأنه مقام شرف، ولأنه مقام رفيع عظيم، ولهذا يؤثر عن علي رضي الله عنه أنه قال “كفاني شرفا أن أكون لك عبدا وكفاني عزاً أن تكون لي ربا” وأثنى الله سبحانه وتعالى على أشرف خلقه بهذا المقام، مقام العبودية أشرف الخلق وساداتُ الناس وصفهم الله سبحانه وتعالى بهذا المقام مقام العبودية لله عز وجل، في مقام تنزيل القرآن قال سبحانه وتعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) سورة الكهف
وقال تعالى:( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ) سورة الفرقان، وفي مقام الإسراء قال تعالى:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) سورة الإسراء، وفي مقام الدعوة إلى الله قال تعالى:( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) سورة الجن.
كما أثنى الله عز وجل على النبيين من قبله بهذا المقام قال تعالى:(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) سورة الإسراء، وقال عز وجل عن سليمان ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) سورة ص، وأثنى الله تعالى على أيوب فقال تعالى:( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) سورة ص.
هكذا يثنى الله سبحانه وتعالى على سادات الخلق بهذا المقام، لأنه مقام شرف لأنه مقام علو ورفعه، ومن أبى أن يكون عبدا لله، سيكون عبدا لسواه، يكون عبدا لأهوائه وشهواته، وربما كان عبداً لحجر أو بقر، أو شمس أو قمر، والله سبحانه وتعالى خالق الخلق كلهم سبحانه، كيف تعبد غير الله والله خالقك، كيف تعبد من هو عابد لله حتى ولو كان جماداً.
مقام السجود لله تعالى وفضله؟
قال الله عز وجل ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ ) سورة الحج، حتى الدواب وحتى الجبال ظلالها سجود لرب العالمين، كل مخلوق سجوده بحسب حاله.
هذه المخلوقات كلها تسجد لله، وكثير من الناس يسجدون لله عز وجل، وكثير حق عليه العذاب، لأنه ترك السجود لله قال تعالى:( وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) سورة الحج.
على ماذا يدل هذا؟ يدل على أن السجود لله عز وجل كرامة ورفعه، وأما من أبى السجود لله وترك الصلاة فهو مهان، مهان في الدنيا والآخرة، ومن يهن الله فما له من مكرم، قال الله عز وجل لعبده ( كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب )سورة العلق، اقترب من الله سبحانه وتعالى بهذه العبادة، عبادة السجود له جل في علاه.
وهذا المقام يحبه الله، يحب من عبده أن يكون ساجدا له، وهو مقامٌ شريف، قال ﷺ في الحديث الصحيح: “أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ” رواه مسلم، أكثر موضع يستجيب الله تعالى فيه الدعاء والإنسان ساجد، لذلك أكثر أيها المسلم فيه من الدعاء، لأنه مقام عظيم وشريف يحبه الله عز وجل.
حقيقة العبودية لله تعالى؟
العبودية حقيقتها محبة الله والخضوع له، والإنابة إليه، والتعلق به سبحانه وتعالى، والعبد يذكر نفسه كل ركعة بقول إياك نعبد، ما قال نعبدك، وإنما قال إياك نعبد، يعني لا نعبد سواك، لا نعبد معك أحدا أبدا، إياك نعبد، وعبودية المؤمن تقوم على محبته لربه، كما تقوم على تعظيمه لأمره.
العبودية حقيقتها كما قال أهل العلم، طاعة الله في جميع أوامره، وترك معصيته سبحانه وتعالى تعظيماً له، ومحبة له، لأن العبد الحقيقي هو الذي لا يغضب الله، يكره أن يغضب محبوبه، محبوبه هو الله، ومثال ذلك أن من أحب أحداً كره أن يغضبه، وكره يجلب عليه شيء يضايقه، يفعل كل ما يريد، فمن أحب امرأة مثلا يكره أن يضايقها بكلمة، ومن صدق في محبته لربه لا يمكن أن يفعل ما يغضب الله، بل تجده مسارعاً إلى ما يحبه الله سبحانه وتعالى ويرضاه.
عبادة الله تعالى؟
العبادة شأن عظيم إذا استحضره المسلم في حياته، صلحت حياته، وشعر بالراحة والطمأنينة، لأنه مع الله، لأنه يرضي ربه الذي يملك الكون كله، وهو مع الله عز وجل في السراء والضراء، إن أصابته السراء شكر، وإن أصابته الضراء صبر واستغفر، هذه عبودية الشكر، شكر الله على النعمة عبودية، لأنك أقررت لله عز وجل بهذه النعمة وأنها من عند الله، قال تعالى: ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) سورة النحل، وإذا أصابك ضر صبرت، وقلت لعل في ذلك خيراً قدره المولى علي، فتسأل الله وتتضرع إليه، وتستغفره من ذنبك، لعله بذنب عملته ونسيته أو سهوت عنه.
فالعبد لله يتذكر هذه المقامات العظيمة بينه وبين الله سبحانه وتعالى، جاء في الحديث الصحيح أن الرسول ﷺ “جلس جبريلُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فنظر إلى السماءِ فإذا ملَكٌ ينزلُ فقال جبريلُ هذا الملكُ ما نزل منذ خُلِق قبلَ الساعةِ، فلما نزل قال يا محمدُ أرسَلَني إليك ربُّك أفملكًا نبيًّا أجعلَك أو عبدًا رسولًا، قال جبريلُ تواضعْ لربِّك يا محمدُ، قال بل عبدًا رسولًا” فهو عبد الله وهو رسوله، وهو سيد ولد آدم أجمعين.
وهكذا كل من حقق العبودية رفع الله عز وجل شأنه في الدنيا والآخرة، والناس إنما يتمايزون يوم القيامة بهذا المقام، وأول كلمة تكلم بها عيسى عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى:( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ )سورة مريم،ذكّر الناس بهذا المقام العظيم الذي اختصه الله تبارك وتعالى به.