هذا الحديث من الوضوح بمكان؛ لأنه يقرر حقيقة لا شك فيها وهو علم الله سبحانه وتعالى بما كان وبما يكون وبما لم يكن كيف يكون، فإن الإنسان العادي إذا أراد أن يبني بيتًا وعنده مساحة معينة من الأرض فإنه – وهو نائم – يتصور ماذا يبني على هذه الأرض أين يكون الباب الرئيسي وأين تكون غرف النوم والصالون وما إلى ذلك، ثم يلجأ إلى مهندس ويطلب منه أن يرسم له البيت طبقًا لحاجته، هذا هو علم الإنسان، أما الله سبحانه وتعالى فإنه قبل أن يخلق الخلق علم بعلمه القديم الذي لا أول له ماذا تكون عليه الخلائق وماذا يختار كل إنسان في حياته من عمل الخير أو من عمل الشر، هذا هو الذي يكتبه الله سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ، فهذا علم لا إرغام فيه ولا إجبار من الله سبحانه وتعالى، فعلى العبد أن يعمل الخير أو أن يعمل الشر وهذا واضح في الحياة، فإن المرء يستطيع أن يذهب إلى المسجد كما يستطيع أن يذهب إلى المسرح، ويستطيع أن يصلي الفرائض ويستطيع أن يمتنع عن الصلاة، وهكذا في كل عمل من الأعمال، فعلم الله لا يجبر الإنسان على عمل ما.
ثُمَّ إن الله سبحانه وتعالى قد جعل لكل إنسان ملكين رقيبا عن يمينه وعتيدا عن يساره يكتبان على الإنسان ما يعمله من خير أو من شر، ثم يصعدان كل خميس إلى سماء الدنيا فيعرضان ما كتباه على الإنسان مع ملائكة السماء الذين يفتحون صفحة هذا الإنسان في اللوح المحفوظ، ويعارضون أو يقارنون بين ما كتبه الله سبحانه وتعالى في اللوح وما كتبته الملائكة القائمة على الإنسان فيجدون المطابقة التامة بين ما خطه الله في اللوح المحفوظ وما عمله الإنسان، فكل ما كتبه الله سبحانه وتعالى على الإنسان إنما هو من عمل الإنسان واختياره.
على أن الإنسان قد يفعل بعض الأشياء الصالحة والأعمال الصالحة في الظاهر ولكن النية لا تكون صالحة كمن ينفق ويتصدق لا لوجه الله ولا لحق الفقراء وإنما ليصل إلى مركز دنيوي أو غاية من غايات الدنيا، وقد يخرج الإنسان للجهاد وهو لا ينوي تحرير الأرض ولا تحرير الوطن، ولكن تكون هناك نية أخرى، كذلك الرجل الذي خرج في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليتزوج امرأة في البلد التي سيحدث فيها القتال من يعلم هذه النيات، إن الله وحده هو الذي يعلم هذه الحقائق.
وقد يكون الإنسان مريضًا ببعض الأمراض النفسية أو العصبية التي لا تظهر في كل حياته كالجنون المتقطع والشيزفرونيا والفصام، هذه الأمراض قد تدفع الإنسان في بعض الأحيان إلى ارتكاب الجرائم والأخطاء، بل قد تدفع الإنسان إلى قتل نفسه، والله وحده هو الذي يعلم هذه الحقائق؛ ولذلك فإن الحساب من خير أو من جزاء إنما يوقعه الله سبحانه وتعالى طبقًا لما يعلم الله من نية صاحبه.
وعلى أية حال فإن الإنسان لا يجوز له أن يتعلل بالقضاء والقدر في الإقدام على المعاصي والمخالفات؛ لأنه لا يدري ماذا يختم له فقد حكى الله سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم تعللوا بهذه العلة، فقال الله تبارك وتعالى: “وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا”، ثم قال الله تبارك وتعالى: “قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون”، أي إنكم تُخَمِّنون ولو كان الإنسان عادلاً لقال إذا كان الله كتب عليَّ القضاء والقدر فلماذا يدخلني الجنة؟ إنه يترك هذا السؤال ويتعلل بالسؤال الآخر فيقول ما دام الله كتب علينا المعصية فلماذا يعذبني؟
على أنه يجب على المؤمن ويشترط لصحة إيمانه وإسلامه أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم الناس شيئًا ولا يحيف عليهم، بل يدوِّن عليهم ما يختارونه، حتى الدعاء وإجابة الدعاء هي أيضًا مدونة في علم الله سبحانه وتعالى أنه سيدعو، وأن الله سبحانه سيستجيب دعاءه بطول العمر أو بسعة الرزق أو بتمام العافية، فهذا كله داخل في حدود علم الله سبحانه وتعالى، وعلى المسلم أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء وعليم بكل شيء ما ظهر وما بطن “لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير”.