1 ـ قال ـ تعالى ـ في الصوم (فالْآنَ باشِرُوهنَّ وابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لكم وكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّن لَكُمُ الخَيْط الأبيض من الخَيْط الأسود من الفجْر ثمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلَى اللَّيْل) ( البقرة : 187 ) .
2 ـ روى الجماعة حديث صحابي قال للرسول ـ ﷺ : هلكْت، فسأله ” ما أهلكك ” ؟ قال : وقعتُ على امرأتي في رمضان، ثم بيَّن له كيف يُكفِّر عن ذلك كفارة عُظمى.
تدل الآية والحديث على أن الصيام إمساك عن الطعام والشراب والاتصال الجنسي، وأن الذي يتناول طعامًا أو شرابًا أو يتَّصل اتصالاً جنسيًّا فقد أفطر، أي بطُل صومه، وقد أجمع الفقهاء، على أنه يجب عليه قضاء ما أفطره؛ لأنه دَين، ودَيْن الله أحق بالقضاء كما ثبت في الحديث الصحيح. وإلى جانب القضاء تجب بالاتصال الجنسي كفَّارة عُظمى، وهي عِتق رقبة، فإن لم يَجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا .
وذهب الفقهاء مذاهب شتَّى في تفسير الأكل والشرب، ثم فَرَّعوا على ذلك تفريعات متعددة، والمتتبِّع لأقوالهم يرى أن مُعظمها مبْني على اصطلاحات ومفهومات حافظت في نظهرهم على الشكل الذي يتحقَّق به الأكل والشرب المبْطلان للصَّوم دون الاهتمام بالحِكْمة المقصودة من الصيام، وهي كفُّ النفس عن أسباب وجودها الشخصي والنوعي مدة من الزمان، ليقْوى سلطان العقل عليها، وتَصْمِد إرادتُه أمام المُغريات والشهوات، وليتحقق معنى قوله تعالى ( لعلكم تتقون ) فقالوا: إن الأكل والشرب يتحققان بدخول أي شيء إلى الجوف ـ واختلفوا في هذا الشيء هل هو عام أو خاص بما فيه غذاء وتلبية لشهوة النفس، كما اختلفوا في المراد بالجوف، هل هو المَعِدَة التي تتلقَّى الأكل والشرب، أو هو ما استَتَر من جسم الإنسان عند النظر إليه، أو هو ما يُحيل الغذاء والدواء …
وترتَّب على هذا أن بعضهم قال : إن إدخال الإصبع في الأذُن يُبطل الصوم؛ لأنه أكْل أو في معنى الأكل، في الوقت الذي يقولون فيه لو وصل الغذاء إلى الجسم وتَقَوَّى به عن طريق غير مفتوح بالطبع: كالإبَر الحديثة، لا يَبْطل الصوم، ويجيء آخرون فيقولون : لو وصل دُهْن الشعْر إلى الحلْق من خلال المسام بَطَل الصوم، مع أنه وصل من منفَذ غير طبيعي، في الوقت الذي يقولون فيه : إدخال حقنة في الإحليل لا تُفسد الصوم مع أن الإحْليل مَنفذ مفتوح .
وفي إهمال مراعاة الحِكْمة في الصوم وإطلاق الأكل على ما يَشمل ما هو بعيد عن معناه لغة وعرفًا ـ جاءت هذه الأحكام المختلفة .
ولهذا نختار من أقوال الفقهاء المعروفين وغيرهم ما يلي :
1 ـ لا يَبْطُل الصوم بوضع الإصبع في الأذن أو تنظيفها بقطنة أو بمحلول، لأن الطبلة لا تسمح بوصول شيء من ذلك إلى داخل الدماغ، والدماغ ليس عضوًا يتلقى غذاء يستفيد منه الجسم .
2 ـ لا يَبطُل الصوم بالفحص المِهْبَلي أو الكشْف على البواسير الداخلية أو الكشف على اللِّوَز بنحو مِلْعَقة .
3 ـ الحقنة الشرجية لا تُبطل الصيام إلا إذا وصلت إلى المعدة .
4 ـ إبر الدواء في الوريد أو العضل أو تحت الجلد لا يَفْطُر بها الصائم؛ لأنها ليست غذاء يُغني من جوع أو يرْوى عطش .
5 ـ إبر التغذية ” الجلوكوز ونحوه ” تُعَد أكْلاً عُرفًا؛ لأن من يأخذها يَستغني بها عن الطعام مدة طويلة، فهي تُشبعه كما يُشبعه الأكل العادي؛ ذلك أن الأكل الذي يصل إلى المعدة بعد هضمه وامتصاصه يوزِّعه الدَّم على الجسم ويكفيه حاجته، وإبر التغذية أَدْخلت الغذاء إلى الدم دون حاجة إلى إمْراره على المَعِدَة والأجهزة الهاضمة الأخرى .
6 ـ ترْطيب الجسم بالماء البارد أو ترطيب الفم بالمضمضة لا يُفسد الصوم؛ لأن النبي ـ ﷺ ـ رُئِيَ وهو يَصب الماء على رأسه من الحرِّ وهو صائم، كما رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح، على أن الترطيب ليس فيه دخول الماء إلى الجوف، بل هو لمنع العَرَق الخارج لتلطيف حرارة الجلد وإبقائه لحاجة الجسم إليه في التقليل من الشعور بالعطش .
7 ـ القَيْء، روى أن النبي ـ ﷺ ـ قال ” من ذَرَعَهُ القَيء ـ أي غلبه ـ فليس عليه قضاء، ومن اسْتَقَاءَ عمدًا فَلْيَقْضِ ” رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي .
قال الفقهاء : إن القَيْء ـ وهو ما يَخْرج من المعدة عن طريق الفم ـ إن كان خروجه اضطراريًّا فلا يُفسِد الصوم، وإن كان عن تعمُّد فسَد الصوم .
وقال ابن مسعود وعكرمة وربيعة : إن القَيء لا يُفسد الصوم على أي حال، محتجِّين بحديث فيه مقال، وردُّوا على الفقهاء بأن الحديث الذي اعتمدوا عليه موقوف وليس مرفوعًا إلى النبي ـ ﷺ ـ، وقال البخاري : لا أراه محفوظًا، وقد رويَ من غير وجه، ولا يصح إسناده، وأنكره أحمد . واحتجَّ الجمهور أيضًا بحديث آخر، لكنْ في سنده اضطراب لا تقوم به حجة .
وإذا لم يوجد حديث مُتَّفق على رفْعه وصحَّته فالأمر متروك للاجتهاد، وقد وُجد من يخالف الجمهور، ويمكن أن يقال : إن القَيء ليس فيه أكل ولا شرب، بل فيه إخْراج أكل وشرْب لمنع ضرره بالجسم، فهل يَلْحق بالحجامة التي هي أخذ دم من الرأس ومثلها الفَصْدُ، وهو أخذ دم من غير الرأس ؟ إن الجمهور يقولون بعدم بُطْلان الصيام بالحِجامة والفَصد؛ لأن الحديث ” أفطر الحاجِم والمَحْجوم ” لم يَسلَم من النقد، إن لم يكن من جهة السند فمن جهة الدِّلالة ” نيل الأوطار للشوكاني. ج4 ص 212، 216 ” .