المعجزات الكونية لنبي الإسلام كثيرة ومستفيضة ؛ ولكنها لم تُجعل عمدة في الدعوة إلى الإسلام ، ولهذا لم يعتنِ بنقلها الصحابة والتابعون ، وإنما اشتهرت من بعدهم ، ولم تؤْثر إلا عن أفراد من أهل القرن الأول ، ويعرف من هذه المعجزات الصحيح وغيره بما يؤكد تحري المسلمين وتثبُّتهم في نقل معجزات نبيهم .

يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا– رحمه الله-:

إن آيات النبوة أعم من المعجزات ، فمن آيات نبوته بشائر الأنبياء السابقة وهي لا تسمى معجزات ، وإن في مكتبة الفاتيكان برومية إنجيلاً مكتوبًا بالقلم الحِمْيَري قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ، وفيه هذه العبارة بحروفها:[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ] ( الصف : 6 ) ، ثم إن معجزة القرآن تتضمن معجزات كثيرة .

وعن المعجزات الكونية لا العلمية والأدبية ، وهذه كثيرة جدًّا ومستفيضة ؛ ولكنها لم تُجعل عمدة في الدعوة إلى الإسلام وطريق إثباته للحكمة ، ولهذا لم يعتنِ بنقلها الصحابة والتابعون لتنقل عنهم بالتواتر ، وإنما اشتهرت ثم تواترت من بعدهم وتنتهي أسانيدها إلى أفراد فنقْلها شبيه بنقل معجزات المسيح عليه الصلاة والسلام من حيث استفاضت على ألسنة المتأخرين ولم تؤْثر إلا عن أفراد من أهل القرن الأول .

إلا أن نقل معجزات نبينا الكونية أضبط وأصح من نقل معجزات المسيح ( عليهما السلام ) لأن لها أسانيد متصلة ، أشخاصها معروفون ؛ إذ وضع لهم كتب مخصوصة في تاريخهم ؛ ولذلك ترى المحدثين يقولون : إن سند هذه المعجزة صحيح وسند هذه ضعيف وهذه ثابتة وهذه مكذوبة أو واهية ؛ لأن في سندها فلانًا الذي كان يكذب في بعض الأحيان ، أو فلان الذي كان كثير النسيان ، وليس للنصارى مثل هذه الأسانيد المتصلة ، أما استقصاء ما كان سنده صحيحًا أو حسنًا وما كان مختلفًا فيه لترجيح أحد الوجهين فليس جواب السؤال بمحل له على أنه غير ضروري ويتوقف على مراجعة جميع ما نقل بأسانيده وتاريخ رجالها ، وهو كثير جدًّا حتى إن بعض المتأخرين ألَّف في المعجزات كتابًا يدخل في ثمان مائة صفحة ونيف .

ومن المرويّ في الصحيحين :خبر انشقاق القمر روياه كغيرهم عن جماعة من الصحابة ، ودفع العلماء ما اعترض به من أن ذلك لو وقع لعرفه أهل الآفاق ونقلوه بالتواتر ، وإن لم يذكروا سببه بأنه كان لحظة وقت نوم الناس وغفلتهم وأن القمر لا يُرى في جميع الأقطار في وقت واحد لاختلاف المطالع ، وإن بعض المشركين لما قالوا : هذا سحر ابن أبي كبشة فانتظروا السُّفَّار وانتظروهم جاؤوا فأخبروا بأنهم رأوا القمر من ليلتهم تلك قد انشق ثم التأم وبأنه يجوز أن يكون رآه غيرهم وأخبر به فكذبه من أخبرهم أو خشي أن يكذبوه فلم يخبر ، وليس بضروري أن يراه في تلك اللحظة علماء الفلك على قِلتهم في الجهة التي رؤي فيها ، ولكنني لا أذكر أن أحدًا أجاب عن كون هذه المعجزة كانت مقترحة مع أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يعطِ الآيات المقترحة ؛ لأنها سبب نزول العذاب بالأمم إذا لم يؤمنوا ، وقد روي أن انشقاق القمر كان بطلب بكفار قريش ولا أذكر لهم أيضًا جمعًا بين آية [ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ ] ( القمر : 1 ) ، وآية [ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ] ( الإسراء : 59 ) ولا بد من تأويل إحداهما وقد أوّل بعضهم الأولى فقط وليس هذا المقام مقام التطويل في هذه المباحث .

ومن المعجزات الواردة في الصحيح أيضًا :إطعامه عليه السلام النفر القليل من الطعام القليل جدًّا رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر ومن حديث أنس وقد وقع ذلك مرات كثيرة .

ومنها :نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى كفى الجيش وقد تكرر هذا أيضًا وبعض رواياته في الصحيحين ، وقالوا : إن هذه المعجزة أعظم من انفجار الماء من الحجر على يد موسى عليه السلام فإن من شأن المياه أن تنبع من الأحجار .

ومنها :الإخبار بالغيوب في وقائع كثيرة جدًّا وبعضها في الصحيحين وغيرهما كقوله : ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ) قال السيوطي في الخصائص : هذا متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر وقد قتلته فئة معاوية عند خروجها على علي أمير المؤمنين – عليه السلام – ولما ذكر لهم الحديث لم ينكروه ؛ لأن منهم مَن كان يرويه قبل هذه الفتنة كعمرو بن العاص ، وإنما أوَّلوه بتأويل سخيف فقالوا : إنما قتله مَن أخرجه ويلزم من هذا أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام هو القاتل لعمه حمزة ولسائر أصحابه الذين دافعوا معه عن الدين ، وتُروى هذه الحجة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه .

ومن اللطائف في هذا الباب ما رواه ابن سعد في الطبقات من طريق عمارة بن خزيمة بن ثابت قال : شهد خزيمة الجمل وهو لا يسل سيفًا ، وشهد صفين وقال : أنا لا أضل أبدًا حتى يقتل عمار ، فأنظر مَن يقتله ؛ فإني سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول : ( تقتله الفئة الباغية ) ، قال : فلما قتل عمّار ، قال خزيمة : قد بانت لي الضلالة ، ثم اقترب فقاتل حتى قُتل .

ومن قبيل حديث عمّار قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن عليه السلام : ( ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني عن أبي بكرة عن الحسن ، ومع هذا قد بحث بعضهم في سماع أبي بكرة عن الحسن ؛ لأن بعض المحدثين أنكره ، والصحيح أنه سمع والمثبت مقدم على النافي .

ومنها :حنين الجذع الذي كان يخطب عليه رواه البخاري وغيره ، وقال التاج السبكي : إنه متواتر كانشقاق القمر ، روي عن نحو عشرين صحابيًّا من طرق صحيحة وتفصيل للوقائع التي كانت فيها هذه الآيات يطول فليطلب من مواضعه ومنها إبراء كثير من العاهات والأمراض باللمس أو التفل .

ولو أردنا أن نذكر طعن المحدثين في بعض أسانيد المعجزات التي لم تصح-كقول ابن كثير في حديث إحياء البنت الميتة : إنه منكر جدًّا ..وقول ابن الجوزي في حديث نطق الحمار : إنه موضوع..وقول المُزني في حديث نطق الضب : لا يصح لا سندًا ولا متنًا .. الخ-لكانت عبرة للموافق والمخالف في تحري المسلمين وتثبُّتهم في نقل معجزات نبيهم .

فليأتنا المخالفون بضبط كهذا الضبط وأسانيد كهذه الأسانيد فيما يروون عن رسلهم ومقدسيهم ثم ليتبجحوا على عامتنا بعجائبهم وغرائبهم ، وفرق أكبر من هذا بيننا وبينهم ، وهو أنهم إذا عجزوا عن إثبات عجائبهم لا يبقى لهم شيء ونحن عندنا آيات الله الكبرى ( القرآن ) والعلم الأعلى من الأمي وما يتبع ذلك .