الجن خلق من مخلوقات الله تعالى ووجودهم ثابت بالأدلة القطعية، وهم مكلفون منهم المؤمن ومنهم الكافر، والكافرونَ منهم مُسلَّطونَ على الإنسان بالوَسوسة والإغْواء والإضْلال، وأحيانًا بالتمثل والظهور له ، وأحيانًا يَلْبَسونَ جِسمَ الإنسانِ ويَعيشون فيه بكَيفيَّة لا يَعلمُها إلا الله تعالى، وتَسلُّطهُ على الإنسان يأخذُ أشكالًا وصُورًا مُتعدِّدةً، منها: أن يكون في صورة حلْمٍ مُزعج ، أو يكون في صورةِ مرَضٍ كالصَّرَع ونحوه.
يقول فضيلة الدكتور نصر فريد واصل :
الجنُّ من السمعيَّات التي جاءتْنا مِن قِبَلِ الصادق الأمين محمد ـ ﷺ ـ وهم عالَم من العَوالِم الغيْبِيَّة التي لا يَعلم حقيقتها إلا الله تبارك وتعالى.
وهم مخلوقون من النار، وسُمِّيتْ بهذا الاسم لأنها تَختفي ولا تُرَى. والجانُّ أبو الجِنِّ خُلق مِن نار السَّموم ثم خُلق منه نسْله. وهم مَخلوقون قَبلَ آدمَ عليه السلام، ودليل ذلك قول الله تعالى : (والجانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قبلُ مِن نارِ السَّمومِ).
وقد ثبَتَ بالدليل القطعيِّ من القرآن والسُّنة وُجودُ الجنِّ، وأجمعَ المُنصِفون من الأمَّة على وُجودِهم، ووُجودُهمْ معلوم من الإخبارات الإلهيَّة بالضرورة، ولم يُخالف أحدٌ في وُجودهم، فالإيمان بالجنِّ واجبٌ على كل مُكلَّفٍ مِن المسلمين.
أما الشياطينُ فهم الكفَرة المَرَدَةُ مِن عالَم الجنِّ، وهم أجسام ناريَّة، وشأنها إضلال الناس وإلْقاؤهم في الغِواية والهلاك.
ولمَّا كان الجنُّ أحياءً وعقلاءَ وكانوا مَأمورِينَ ومَنهيِّينَ فإنه يكون لهم الثوابُ إنْ أطاعوا والعقابُ إنْ عَصَوا، وهم مَأمورون ومَنْهِيُّونَ لأن محمدًا ـ ﷺ ـ أُرسل إليهم.
وأثبت القرآن الكريم أن منهم الصالِحَ والطالِحَ والمؤمنَ والكافرَ والمُطيعَ والعاصيَ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: (وأنَّا مِنَّا الصالِحونَ ومنَّا دُونَ ذلكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَدًا..) إلى قوله تعالى: (.. وأمَّا القَاسطونَ فكانُوا لجهنمَ حَطَبًا) (الجن: 11 ـ 15).
وقد أجمع العلماء على أن كافِرَهم مُعذَّبٌ. أما مُؤمنُهم فقد اختلفوا فيه على أقوال:
الأول: إن مؤمنَ الجنِّ كمُؤمن الإنْس لقوله تعالى: (ولِمَنْ خافَ مَقامَ ربِّهِ جَنَّتانِ) فالآية عامَّة تَشمل الجنَّ والإنْسَ.
الثاني: أن كافرَهم يُعذَّبُ، ومُؤمنَهم في الجنة. وقد رُوي أنهم في رَبَضِ الجنَّة، أيْ حولَها.
صِلة الجنِّ بالإنسان:
اتِّصال الجن بالإنسان ثابت بالكِتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: (وقَيَّضْنَا لهمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لهمْ ما بينَ أيْدِيهِمْ ومَا خَلْفَهمْ) وقوله تعالى: (ومَنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الرحمنِ نُقَيِّضْ لهُ شَيطانًا فهوَ لهُ قَرِينٌ).
وأما السُّنَّة فقوله ﷺ: “ما مِنكمْ مِن أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ بهِ قَرِينٌ مِنَ الجنِّ وقَرينٌ مِنَ المَلائكةِ” قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: “وأنَا، إلا أنَّ اللهَ قد أعانَنِي عليهِ فأسلم، فلا يأمرُني إلا بخَيرٍ”. وأجمعتِ الأمةُ على أن الجنَّ مَوجُودونَ في كل مكان يكون فيه الإنسان، ويَحضُرونَ أكْلَه وشُربَه ومَآدبَه ومَجالِسَه، لا يُفارقونه أبدًا إلا أن يَحجُزهم عنه ذِكْرُ اسمِ الله تعالى.
واتِّصالُ الجنِّ بالإنسان اتصالٌ من نوع خاصٍّ ليس كاتصال الإنسان بالإنسان؛ لأن الجنَّ عالَم غَيْبِيٌّ يَرانَا ولا نَراه، وهو اتصال يُناسبُ طبيعةَ كلٍّ منهما وفي الحدود التي رَسمتْها سُننُ اللهِ وقَوانينه الكونيَّة والشرعيَّة.
والجن الكافرون مُسَلَّطونَ على الإنسان بالوَسوسة والإغْواء والإضلال، وأحيانًا بالتمثيل والتشبيه، وأحيانًا يَلبسون جسم الإنسان ويَعيشون فيه بكيفيةٍ لا يَعلمها إلا الله ـ تعالى ـ فيُصاب الإنسانُ عن طريقهم بمَرضٍ من الأمراض كالصَّرَع والجنون والتَشنُّج، فقد أوردَ الحافظ أبو بكر بن مَرْدَوَيْهِ حديث محمد بن عمرو عن أبي سلَمة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: جاءتِ امرأةٌ إلى النبيِّ ـ ﷺ ـ وبها طَيفٌ فقالت: يا رسولَ الله ادعُ اللهَ أن يَشفِيَني. فقال: “إنْ شئتِ دَعوتُ اللهَ فشَفاكِ، وإنْ شئتِ فاصْبري ولا حسابَ عليكِ” فقالت: بل أصبرُ ولا حساب عليَّ. وفي رواية قالت: يا رسول الله إني أُصرعُ وأتكشَّفُ، فادعُ الله أن يَشفِيَني. فقال: “إن شئتِ دعوتُ الله أن يشفيَكِ، وإنْ شئتِ صبرتِ ولك الجنة” فقالتْ: بل أصبرُ وليَ الجنةُ، ولكنِ ادْعُ اللهَ أن لا أتكشَّف. فدَعا لها فكانت لا تَتكشَّفُ (وأخرجه الحاكم في مُستدركه).
وكل هذا بقضاء الله وقدَره، فكما أن الإنسان يُصاب عن طريق إنسانٍ مِثلِه ببَعض ما أراد الله، مِن إصاباتٍ جَسدية أو أمراض عُضوية أو مَصائب شخصية أو غيرها، فكذلك يُصاب عن طريق الجنِّ بما ذكَرنا من أمراض أو إصابات إذا قدَّر الله وشاء.
ولمَّا كان الإنسان قد خَلَقه اللهُ ذَا إرادةٍ حُرَّةٍ يَتمكَّن بها أن يَختار أفعالَه الاختياريَّة، فإن الشيطانَ لا يَتسلَّط على إرادته واختياره، غايةُ ما يَستطيعُه الشيطانُ هو الوَسوسة وتَزْيينُ الخطيئة، وهو محلُّ اختبار الإنسان وامْتحانه، وفي مُقابل ذلك وَضَعَ الله في فِطْرة الإنسان حاسَّة إدْراك الخير والطاعة وألْهَمَ هذه الفِطرةَ التمييزَ بين تَزْيينِ الشيطان وإكرام الله للإنسان.
ذكَر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من تاريخه أن شابًّا كان يَتعبَّدُ في المسجد فهَوِيَتْهُ امرأةٌ فدَعتْه إلى نَفسها فما زالتْ به حتى كادَ يدخلُ معها المَنزلَ فتذكَّر هذه الآية: (إنَّ الذينَ اتَّقَوا إذَا مسَّهمْ طائفٌ من الشيطانِ تَذكَّروا فإذَا همْ مُبصِرُونَ) فخَرَّ مَغشيًّا عليه، ثم أفاق، فأعادها فماتَ، فجاء عمرُ فعزَّى فيه أبَاهُ، وكان قد دُفنَ ليْلًا، فذهب فصلَّى على قبره بمَن معه، ثم ناداهُ عمر فقال: يا فتى (ولِمَنْ خافَ مقامَ ربِّهِ جَنَّتانِ). فأجاب الفتى من داخل القبر: يا عمر قد أَعْطانِيهما ربِّي ـ عز وجل ـ في الجنة مَرَّتَينِ.
يقول الله تعالى: (ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا) وقال ﷺ: “إن للشيطانِ مِن ابن آدمَ لَمَّةٌ ( وهي المَسُّ الخَفيف ) وللْمَلَكِ لَمَّةٌ، فأما لمَّةُ الشيطانِ فإيعادٌ ( وعد) بالشرِّ وتكذيبٌ بالحقِّ، وأمَّا لَمَّةُ المَلَكِ فإيعادٌ بالخير وتَصديقٌ بالحقِّ” ثم تَلا قوله تعالى: (الشيطانُ يَعِدُكم الفقرَ ويَأْمُرُكم بالفَحْشَاءِ واللهُ يَعِدُكم مَغفرةً مِنهُ وفَضْلًا واللهُ واسِعٌ عَليمٌ) (البقرة: 268).
والخلاصة في هذا أن الجنَّ لا يَستطيع التسلُّط على الإرادة الحُرَّةِ الاختياريَّة في الإنسان، وتَسلُّطه على الإنسان يكون في غير الإرادة الحُرَّةِ الاختيارية.
ويأخذ هذا التسلط أشكالا وصُورًا مُتعددةً منها:
1 ـ أن يكون ذلك في صورة حلمٍ مُزعجٍ، وفي ذلك يَقول الرسول ﷺ: “إذا رأى أحدُكم الرؤيَا يُحبُّها، فإنما هي مِن اللهِ، فلْيَحْمَدِ اللهَ عليها ولْيُحَدِّثْ بها، وإذا رأى غيرَ ذلك ممَّا يَكرهُ فإنَّما هي مِنَ الشيطانِ، فَلْيَستعذْ بالله ولا يَذكرْهَا لأحدٍ، فإنَّها لا تَضرُّهُ”.
وقد رَوَى الترمذيُّ وأبو داود مِن قول الرسول ﷺ: “إذا فزِع أحدُكم في النوم فلْيقلْ: أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن غَضبه وعِقابِهِ وشَرِّ عِبادِه ومِن همَزات الشياطينِ وأن يَحضُرونَ. فإنه لا يَضُرُّهُ”.
2 ـ أن يكون ذلك في صورة مرَضٍ كالصرَّع ونحوه. ولا يَستطيع أحدٌ أن يُنكِرَ دخول الجنِّ في بَدَنِ المَصروع، بل قد وُجد من الأدلَّة الشرعيَّة ما يُؤكد وُقوع ذلك، فقد رَوى أحمد في مُسنده وأبو داود في سُننه وأبو القاسم الطبرانيُّ من حديث أمِّ أبانٍ بنت الوازع عن أبيها أن جَدَّها انطلقَ إلى رسول الله ـ ﷺ ـ بابنٍ له أو ابنِ أختٍ له مَجنون، فقال: يا رسول الله، إن معي ابنًا لي أو ابنَ أختٍ لي مَجنون، أتيتُك به لِتَدعوَ اللهَ له. قال ﷺ: “ائْتِنِي بِهِ” قال: فانطلقتُ به حتى انتهيتُ إلى رسول الله ـ ﷺ ـ فقال: “أدْنِهِ مني واجعلْ ظهرَه مما يَلِينِي” قال: فأخَذ ـ ﷺ ـ بمَجامع ثَوْبِه بين أعلاه وأسفله، فجعل يَضرب ظَهرَه، حتى رأيتُ بياضَ إبطِهِ، ويقول: “اخرُجْ عدوَّ اللهِ” فأقبَلَ يعني المريض يَنظر نَظَرَ الصحيحِ ليس بالنظَر الأول، ثم أقعدَه رسول الله ـ ﷺ ـ بين يَديْه فدَعا له بماءٍ فمَسَحَ وَجهه ودعَا له، فلم يكنْ في الوَفد أحدٌ بعد دعوة رسول الله ـ ﷺ ـ يَفضُل عليه. يَعني أفضل منه.
وعلاج هذا النوع يكون بأمرينِ:
أمرٌ من جهة المَصروع وأمر من جهة المُعالِج، فالذي من جهة المَصروع يكون بقوة نفسِه وصدْق تَوجُّهِهِ إلى فاطِر هذه الأرواح وبارئِها والتعوُّذ الصحيح الذي قد تَواطَأَ عليه القلب واللسان، فإنَّ هذا نوعُ مُحارَبة، والمُحارِب لا يَتمُّ له الانتصافُ مِن عدُوِّه بالسلاح إلا بأمرَينِ؛ أن يكونَ السلاحُ صحيحًا في نفسه وأن يكون الساعدُ قويًّا، فمتى تخلَّف أحدُهما لم يُغنِ السلاحُ كثيرَ طائلٍ.
الثاني من جهة المُعالِج، بأن يكون فيه هذانِ الأمران أيضًا، حتى إنَّ مِنَ المُعالِجينَ مَن يكتفي بقوله: اخرجْ منه. أو يقول: باسم الله. أو يَقول: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
والنبيُّ ـ ﷺ ـ كان يَقول: “اخرُجْ عدوَّ الله، أنا رسولُ الله”.
وبالجملة فهذا النوع من الصَّرَع وعِلاجه لا يُنكره إلا قليلُ الحظِّ مِن العِلْم والعَقل والمَعرفة، وأكثرُ تَسلُّط الأرواح الخبِيثة على أهلِه تكون من جِهة قِلَّة دِينِهم وخرابِ قُلوبِهم وألْسنتِهم من حقائق الذكْر والتَّعاوِيذ والتَّحصينات النبويَّة والإيمانيَّة، فتلقَى الروحُ الخبِيثةُ الرجلَ أعزلَ لا سلاحَ معه فيُؤثِّر فيه هذا.