المسافر يقصر الصلاة مادام مسافراً فإن أقام لحاجة ينتظر قضاءها قصر الصلاة كذلك لأنه يعتبر مسافراً وإن أقام سنين ؛ فإن نوى الإقامة مدة معينة فالذي اختاره ابن القيم أن الإقامة لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أم قصرت ما لم يستوطن المكان الذي أقام فيه .
وللعلماء في ذلك آراء كثيرة لخصها ابن القيم وانتصر لرأيه فقال : ” أقام رسول الله ﷺ بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ولم يقل للأمة لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك ، ولكن اتفق إقامته هذه المرة . وهذه الإقامة فى حال السفر لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أم قصرت إذا كان غير مستوطن ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع.
وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافاً كثيراً . ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : ” أقام النبي ﷺ في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا . وظاهر كلام أحمد أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمكة زمن الفتح فإنه قال : ” أقام رسول الله ﷺ بمكة ثماني عشرة يوماً من الفتح لأنه أراد حنيناً ولم يكن ثم أجمع المقام : وهذه إقامته التي رواها ابن عباس .
وقال غيره بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك كما قال جابر بن عبد الله : ” أقام النبي ﷺ بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ” رواه الإمام أحمد في مسنده وقال المسور بن مخرمة : ” أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ونتمها ” وقال نافع : “أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول ” وقال حفص بن عبيد الله : ” أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر ” .
وقال أنس : “أقام أصحاب النبي صلى الله عليه سلم برام هرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة ” . وقال الحسن : ” أقمت مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل سنتين يقصر الصلاة ولا يجمع ” . وقال إبراهيم : ” كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وسجستان السنتين ” فهذا هدي النبي ﷺ وأصحابه كما ترى وهو الصواب .
وأما مذهب الناس فقال الإمام أحمد إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر . وحمل هذه الآثار على أن رسول الله ﷺ وأصحابه لم يجمعوا ( يجمعوا : يقصدوا ) الإقامة البتة بل كانوا يقولون : اليوم نخرج غداً نخرج . وفي هذا نظر لا يخفى فإن رسول الله ﷺفتح مكة وهى ما هى وأقام فيها يؤسس قواعد الإسلام ويهدم قواعد الشرك ويمهد أمر ما حولها من العرب ، ومعلوم قطعاً أن هذا يحتاج إلى إقامة أيام ولا يتأتى في يوم واحد ولا يومين ، وكذلك إقامته بتبوك فإنه أقام ينتظر العدو ، ومن المعلوم قطعاً أنه كان بينه وبينهم عدة مراحل يحتاج إلى أيام وهو يعلم أنهم لا يوافقون في أربعة أيام .
وكذلك إقامة بن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة من أجل الثلج . ومن المعلوم أن مثل هذا الثلج لا يتحلل ويذوب في أربعة أيام بحيث تفتح الطرق. وكذلك إقامة أنس بالشام سنتين يقصر ، وإقامة الصحابة برام هرمز سبعة أشهر يقصرون . ومن المعلوم أن مثل هذا الحصار والجهاد لا ينقضي في أربعة أيام .
وقد قال أصحاب أحمد : إنه لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض قصر سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة . وهذا هو الصواب ، لكن شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة . فقالوا شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر وهي ما دون الأربعة أيام . فقال : من أين لكم هذا الشرط والنبى ﷺ لما أقام زيادة على أربعة أيام يقصر الصلاة بمكة وبتبوك لم يقل لهم شيئاً ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته ، ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته فلم يقل لهم حرفاً واحداً لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال وبيان هذا من أهم المهمات ، وكذلك اقتداء الصحابة به بعده ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئاً من ذلك .
وقال مالك والشافعي إذا نوي إقامة أكثر من أربعة أيام أتم وإن نوي دونها قصر . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن نوى إقامة خمسة عشر يوماً أتم وإن نوي دونها قصر . وهو مذهب الليث ابن سعد . وروي عن ثلاثة من الصحابة عمر وابنه وابن عباس . وقال سعيد بن المسيب : إذا أقمت أربعاً فصل أربعاً ، وعنه كقول أبي حنيفة رحمه الله . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إن أقام عشراً أتم ، وهو رواية عن ابن عباس ، وقال الحسن: يقصر ما لم يقدم مصراً . وقالت عائشة : يقصر ما لم يضع الزاد والمزاد .
والأئمة الأربعة رضوان الله عليهم متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاؤها يقول اليوم أخرج غداً أخرج فإنه يقصر أبداً إلا الشافعي في أحد قوليه فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر أو ثمانية عشر يوماً ولا يقصر بعدها . وقد قال ابن المنذر في إشرافه : أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر مالم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون .