لم يصم النبي صيام سيدنا داود – عليه السلام- مع أنه أخبر بأنه أفضل أنواع الصيام؛ لأنه كان عليه من الأعمال الواجبة ما يحتاج إلى الفطر حتى يقيمها على الوجه الذي يحب الله تعالى. فكان فطره في حقه هو الأفضل.

والعبادة النافلة إذا شغلت عن الأمور الواجبة كانت حراما، وإذا جرت إلى مكروه كانت مكروهة، وكذلك قد تسقط بعض العبادات الواجبة مراعاة لما هو أوجب منها وأفضل.

من السنة الاقتصاد في العبادة:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :-

المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله هو الاقتصاد في العبادة كما قال النبي : ” { عليكم هديا قاصدا عليكم هديا قاصدا } وقال : ” { إن هذا الدين متين ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فاستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا } وكلاهما في الصحيح .

وقال أبي بن كعب : ” اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة ” . فمتى كانت العبادة توجب له ضررا يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها كانت محرمة مثل أن يصوم صوما يضعفه عن الكسب الواجب، أو يمنعه عن العقل أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب.

وكذلك ( أي تكون العبادة محرمة كذلك) إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها مثل أن يخرج ماله كله ثم يستشرف إلى أموال الناس ويسألهم .

وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها وأوقعته في مكروهات فإنها مكروهة . وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } المائدة : 87، فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة : هذا يسرد الصوم، وهذا يقوم الليل كله، وهذا يجتنب أكل اللحم وهذا يجتنب النساء . فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم والنساء ،وعن الاعتداء – وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام والقيام والقراءة والذكر ونحو ذلك، والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في المباح على ما أبيح –.

ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على هذا التحريم والعدوان .

أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل:

-في الصحيحين عن أنس { أن نفرا من أصحاب النبي – سألوا أزواج النبي عن عمله في السر فقال بعضهم : أما أنا فأصوم لا أفطر وقال الآخر : أما أنا فأقوم لا أنام وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء : وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم . فبلغ ذلك النبي فقال : ما بال أقوام يقولون : كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني } .

-وفي الصحاح من غير وجه { عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان قد جعل يصوم النهار ويقوم الليل ويقرأ القرآن في كل ثلاث فنهاه النبي عن ذلك وقال : لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس } أي غارت العين ; وملت النفس وسئمت . وقال له : ” { إن لنفسك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا فآت كل ذي حق حقه } . فبين النبي أن عليك أمورا واجبة من حق النفس والأهل والزائرين فليس لك أن تفعل ما يشغلك عن أداء هذه الحقوق الواجبة بل آت كل ذي حق حقه . ثم { أمره . النبي أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وقال : إنه يعدل صيام الدهر وأمره . أن يقرأ القرآن في كل شهر مرة فقال : إني أطيق أفضل من ذلك ولم يزل يزايده حتى قال : فصم يوما وأفطر يوما فإن ذلك أفضل الصيام . قال : إني أطيق أفضل من ذلك قال : لا أفضل من ذلك } .

وكان عبد الله بن عمرو لما كبر يقول : يا ليتني قبلت رخصة رسول الله وكان ربما عجز عن صوم يوم وفطر يوم . فكان يفطر أياما ثم يسرد الصيام أياما بقدرها لئلا يفارق النبي على حال ثم ينتقل عنها . وهذا لأن بدنه كان يتحمل ذلك .

وإلا فمن الناس من إذا صام يوما وأفطر يوما شغله عما هو أفضل من ذلك فلا يكون الصوم أفضل في حقه .

-وكان النبي هكذا فإنه كان أفضل من صوم داود .

-ومع هذا فقد ثبت عنه في الصحيح { أنه سئل عمن يصوم الدهر فقال : من صام الدهر فلا صام ولا أفطر } .

-{ وسئل عمن يصوم يومين ويفطر يوما فقال : ومن يطيق ذلك } .

-{ وسئل عمن يصوم يوما ويفطر يومين فقال : وددت أني طوقت ذلك }

-{ وسئل عمن يصوم يوما ويفطر يوما فقال : ذلك أفضل الصيام } فأخبر أنه ود أن يطيق صوم ثلث الدهر ; لأنه كان له من الأعمال التي هي أوجب عليه وأحب إلى الله ما لا يطيق معه صوم ثلث الدهر .

-وكذلك ثبت عنه في الصحيح {أنه لما قرب من العدو في غزوة الفتح في رمضان أمر أصحابه بالفطر فبلغه أن قوما صاموا فقال : أولئك العصاة}

-{وصلى على ظهر دابته مرة وأمر من معه أن يصلوا على ظهور دوابهم ; فوثب رجل عن ظهر دابته فصلى على الأرض فقال النبي : مخالف خالف الله به . فلم يمت حتى ارتد عن الإسلام } .

وقال ابن مسعود : إني إذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي .