توبة الإنسان إلى الله معناها الرجوع إليه من الكُفْر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، وتوبة الله على الإنسان معناها قَبُولُ رجوعه إليه، والتَّجاوُّز عما تاب منه، بمعنى عدم مُعَاقبته عليه .
والرجوع لا يكون إلا بتَرْك ما تاب منه الإنسان، ثم النَّدم على فِعْله، والعزم الأكيد على عدم العَوْدِ إليه، ولا يتم التَّرْكُ إلا بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، أو طلب تَنَازلهم عنها .
ولا تُقْبَلُ التَوْبة إلا إذا وقعت قبل الْغَرْغَرَة ساعة الاحْتضار، وقبل أن تطلُع الشمس من المَغْرِب يوم القيامة، فإن لم يتُبْ إلا عند ذلك لم يتُب الله عليه، أي يعاقبه إن كان كافرًا، وأما إن كان عاصيًا بغير الكُفْرِ فأَمْرُه مُفَوَّض إلى ربه، إنْ شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه . قال تعالى ( إنَّما التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ للَّذِين يَعْمَلُون السُّوْءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِين يَعْمَلُون السَّيئَاتِ حَتَى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ اَلآنَ وَلَا الَّذِين يَمُوتُون وَهُمْ كُفَّار أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( النساء : 17، 18 ) وقال النبي ـ ﷺ ـ” إن الله عز وجل يَقْبَل تَوْبَة الْعَبد ما لم يُغَرْغِر” رواه الترمذي وقال : حديث حسن.
وقال ” إنَّ الله يبسُط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسُط يده بالنهار ليتوبَ مسيء الليل حتى تطلُع الشمس من مغربها ” رواه مسلم . وقال تعالى ( إنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلَكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ( النساء : 48 ) وقال تعالى ( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِه فَيَمُتْ وَهَوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ) ( البقرة : 217 ) .
بعد هذا نقول: إن مخالفة إبليس لله كانت كفرًا من وجهين أحدهما: أنه رفض أمر الله وتَكَبَّر . وثانيهما: أنه نسب الجَوْر والظلم لله بتفضيل آدم عليه، والسجود له ثم إنه أصرَّ على العناد ولم يتُب، بل لم يفكِّر في التوبة، وطلب من الله أن يُطيل عمره إلى يوم القيامة حتى يثأر من آدم وذريَّته، ويحارب الله بعُنف حتى يصرف الناس عن شُكره والإيمان به، ولهذا طرده الله من رحمته طردًا أبديًا، قال تعالى ( وإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلِّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِن الْكَافِرِينَ ) ( البقرة : 34 ) وقال تعالى ( قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّر فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين ) ( الأعراف : 13 ) وقال تعالى ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّين ) ( ص : 77، 78 ) .
ومن هذا نرى أن معصية إبليس كانت كفرًا، وأصرَّ عليها ولم يتُب، بل لم يفكِّر في التوبة، فكان الجزاء طرْده من رحمةِ الله إلى الأَبَد .
أما ما وقع من سيدنا آدم فليس كُفرًا؛ لأنه لم يرفض التكليف بعدم قُرْبان الشجرة، بل قبله ودخل الجنة وتمتع بنعيمها ولم يقْرُب الشجرة أولًا، ولم يكن عنده عزم على مخالفة أمر الله، وشاءت إرادة الله أن يكون آدم أول ضَحيَّة لإبليس في تنفيذ مُخَططه الذي أقسم عليه، فنسي آدم عهدَ الله له بعدم طاعة الشيطان، وصدَّق إبليس في حَلْفه بالله أن من الخير له أن يأكل من الشجرة، وبحُسن الظن أَكَلَ هو وحواء منها، وعندما شعرا بآثار المخالفة وبدَت لهما سَوْآتُهما تنبَّها إلى مُخَطط الشيطان .
وبعد عتابٍ من الله لهما وتذْكيرهما بعهده ألْهَمهما كلماتٍ قالاها، مُقرِّين فيها بارتكاب ما يضرُّ، طالبين عفوَ الله ومغفرته، فقَبِل منهما التوْبة . قال تعالى ( فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) ( طه :117) وقال تعالى ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ( طه :115) أي لم يعلم الله لهما عزمًا على المعصية حين أخذ العهد عليهما؛ لأن العَزْم كان غير موجود، أو لم يعلم عزمًا، أي: قوة على المقاومة لإغراء الشيطان وتصْديقه في حَلفه بالله أنه ناصح لهما . وقال تعالى ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةَ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِين ) ( الأعراف : 22 ) وقال تعالى ( فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم ) ( البقرة : 37 ) وهذه الكلمات هي ( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين ) ( الأعراف: 23 ) .
من هذا نعرف أن مخالفة آدم كانت نسيانًا ولم تكن كفرًا، والنسيان، وإن كان الله لا يُؤاخذ على آثاره رحمة بعباده، إلا أن الله سَمى ما وقع من آدم معصية؛ لأنه على صورتها، ولأن مقام آدم ليس كمقام بقية الناس، وكما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين .