الإسلام دين الرحمة دين ينير القلوب والعقول ويفتحها طواعية بالحب والإقناع.
يقول فضيلة الشيخ “أحمد الشرباصي ” رحمه الله من علماء الأزهر الشريف:
يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ في سورة يونس: (قُلْ يا أيُّها الناسُ قد جاءَكُمْ الحق مِنْ ربِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فإنَّمَا يهتَدِي لنفسِهِ ومَنْ ضَلَّ فإنَّمَا يَضِلُّ عليها وما أنَا عليكمْ بِوَكِيلٍ). (الآية: 108).
أي لست مُوَكَّلاً من عند الله سبحانه بأموركم، ولست مسيطرًا عليكم أو متصرفًا فيكم، حتى أُرغِمَكم على الإيمان، أو أمنعكم من الكفران، ولا أملك نفعكم أو ضركم، وإنما أنا بشير ونذير، فمَن شاء فلْيؤمن، ومَن شاء فلْيكفر.
وكذلك يقول الله ـ عز وجل ـ في سورة يونس: ( ولو شاءَ ربُّكَ لآمنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهُمْ جميعًا أفأَنْتَ تُكْرِهُ الناسَ حتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الآية: 99).
أي لو أراد ربك أن يجعل كل الناس مؤمنين، لا فرق بين فرد منهم وفرد، لقدَرَ على إيجادهم بهذه الصورة وهذه الفطرة منذ بداية خلقهم، ولكنَّ حكمته اقتضت أن يُخلَق هذا الإنسان الصالح للهداية أو الغواية كما قال تعالى: (إنَّا هَدَيْنَاهُ السبيلَ إمَّا شاكرًا وإما كَفُورًا) (الإنسان: 35)، وليس في استطاعتك ولا من اختصاصك أيها الرسول أن تحمل الناس بالإكراه أو القوة على الدخول في الدين، وهذا يذكرنا بقول الله ـ جل جلاله ـ في سورة البقرة: (لا إكْرَاهَ في الدِّينِ قد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغُوتِ ويَؤُمِنْ باللهِ فقدِ اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لها واللهُ سميعٌ عليمٌ). (الآية :256).
وقد نزلت هذه الآية الكريمة بسبب أن رجلاً من الأنصار، مِن بني سالم بن عَوْفٍ، يُقال له الحُصَيْنُ، كان له ابنانِ نصرانيّان، وكان هو مسلمًا، فحاول إكراهَهما على الدخول في الإسلام، فاحتكموا إلى النبي ـ ﷺ ـ فنَهَاهُ النبي عن ذلك، فقال الرجل:
ألا أستكرهُهُما، فإنهما قد أَبَيَا إلا النصرانية؟ فنهاه النبي عن الإكراه، فقال الرجل: أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فنزلت الآية.
يقول السيد محمد رشيد رضا معلِّقًا على ذلك: هذا هو حكم الدين الذي يزعم الكثيرون من أعدائه ـ وفيهم َمن يُظنُّ أنه من أوليائه ـ أنه قام بالسيف والقوة، فكان يعرض على الناس والقوة عن يمينه، فمن قَبِلَهُ نَجَا، ومَنْ رفضَهُ حَكَمَ السيفُ فيه حُكْمَهُ!!
فهل كان السيف يعمل عمله في إكراه الناس على الإسلام في مكة أيام كان النبي ـ ﷺ ـ يُصلي مُستخفيًا، وأيام كان المشركون يَفتنون المسلم بأنواع العذاب، ولا يجدون رادعًا، حتى اضطر النبي وأصحابه إلى الهجرة؟ أم يقولون أن ذلك الإكراه وقع في المدينة بعد أن اعتز الإسلام؟
ويقول الشيخ محمد عبده: الإيمان هو أصل الدين، وجوهره عبارة عن إذعان النفس، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالبيان والبرهان، ولذلك قال تعالى بعد نفي الإكراه: ( قَدْ تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ). أي قد ظهر أن في هذا الدين الرشد والهدى والفلاح، والسير في الجادَّة على نور.
وكذلك يقول رشيد رضا: إن قوله تعالى: (لا إكراهَ في الدِّينِ) قاعدة كُبرى من قواعد دين الإسلام، وركنٌ عظيم من أركان سياسته، فهو لا يُجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحدٍ أن يُكره أحدًا من أهله على الخروج منه.
وإنما نكون متمكِّنين من إقامة هذا الركن، وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومَنْعَةٍ، نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فِتنتنا في ديننا، اعتداءً علينا بما هو آمِنٌ أن نعتدي عليه بمثله، إذْ أُمِرْنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل المخالفين بالتي هي أحسن، معتمدين على أن تَبيُّن الرشد من الغي بالبرهان: هو الصراط المستقيم إلى الإيمان، مع حرية الدعوة، وأمن الفتنة.
فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار، أي أنه ليس من جوهره ومقاصده، وإنما هو سِياجٌ له وجُنَّةٌ، وهو سياج لازم له للضرورة، ولا الْتِفَاتَ لما يَهذي به العوام، ومُعلموهم الطَّغام، إذ يَزْعُمُونَ أن الدين قام بالسيف، وأن الجهاد المطلوب لذاته، فالقرآن في جملته وتفصيله حُجَّةٌ عليهم، وتأمل قول الله تعالى: (اللهُ وَلِيُّ الذينَ آمنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ)0 (البقرة: 257).
فهذا يفيد أن الإيمان وغيره من ضروب الهداية يكون بتوفيق الله تعالى من شاء، وإعداده للنظر في الآيات، والخروج من الشبهات بما يَنْقَدِحُ لفكره من نور الدليل، لا بالإجبار والإكراه.
والجهاد في الإسلام إنما يكون لردِّ عُدوان، أو صدِّ هجوم، أو استرداد حق، أو نُصرة مظلوم، أو تَحرير مُغتصَب، أو إزالة عقبة تقف في طريق الدعوة، أو القضاء على فتنة تُريد أن تَبُثَّ الإرغام والإكراه في الناس فيما يتعلق بالدين. وإذا كان هناك من استغلَّ اسم الدين في جهادٍ قائم على الإكراه والإرهاب، فالعَيب في ذلك ليس عيبَ الدين، ولكنه عيبُ مَن أراد استغلاله، أو أساء استعماله.
ولله دَرُّ أمير الشعراء أحمد شوقي حين يقول في ذلك مخاطبًا رسول الله ـ ﷺ ـ
قالوا غَزَوْتَ ورُسْلُ اللهِ ما بُعِثُوا لِقَتْلِ نَفْسٍ، ولا جاءُوا لِسَفْكِ دَمِ
جَهْلٌ، وتَضليلُ أحلامٍ، وسَفْسَطَةٍ فَتَحْتَ بالسيْفِ بعد الفتحِ بالقلمِ
والشرُّ إنْ تَلْقَهُ بالخيرِ ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا، وإنْ تَلْقَهُ بالشرِّ ينحسم
فالإسلام لا يعرف الإكراه في الدعوة، ولكنه يقف في وجه الطغيان حتى يقضي عليه.