ذكر القرطبي في تفسيره ” ج 16 ص 57 ” أن العلماء تكلَّموا في النبي صلّى الله عليه وسلم هل كان متعبدًا بدينٍ قبل الوحي أم لا، فمنهم من منع ذلك مطلقًا وأحاله عقلاً، قالوا أنه يبعد أنه يكون متبوعًا من عُرِف تابعًا، وبنَوا هذا على التحسين والتقبيح، وقالت فرقة أخرى بالتوقُّف وترك قطع الحكم عليه بشئ في ذلك، حيث لا دليل على شئ بالعقل أو النقل، وهذا مذهب أبي المعالي، وقالت فرقة ثالثة: إنه كان متعبدًا بشرع من قبله وعاملاً به، ثم اختلف هؤلاء في التعيين، فذهبت طائفة إلى أنه كان على دين عيسى، فإنه ناسخ لجميع الأديان والمِلل قبله فلا يجوز أن يكون النبي على دين منسوخ، وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين إبراهيم، لأنّه من ولده فهو أبو الأنبياء، وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين موسى؛ لأنه أقدم الأديان ( هكذا )، وذهبت المعتزلة إلى أنه لابد أن يكون على دين، ولكن عين الدين غير معلومة عندنا.
وقد أبطل هذه الأقوال كلَّها أئمتنا؛ إذ هى أقوال متعارضة وليس فيها دَلالة قاطعة وإن كان العقل يجوز ذلك كله، والذي يقطع به أنه عليه السلام لم يكن منسوبًا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدًا من أمته ومخاطبًا بكل شريعته، بل شريعته مستقلّة بنفسها مُفتتَحة من عند الله الحاكم عزّ وجلّ وأنه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كان مؤمنًا بالله عزَّ وجلَّ، ولا سجد لصنم ولا أشرك بالله، ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر أي الموضع الذي يجتمعون للسَّمَر فيه، ولا حضر حلف المطر ( هكذا ) ولا حلف المُطيبين ـ القائم على نصرة المظلوم وصلة الأرحام ـ بل نزّهه لله وصانَه عن ذلك.
ولا يعترض على ذلك بقوله تعالى:( قُلْ بِلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنيفًا) ( سورة البقرة : 135 ) وبقوله:( أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنيفًا ) (سورة النحل : 123) وبقوله ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى به نُوحًا والذِي أَوْحَيْنا إليكَ ومَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْراهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَنْ أَقيمُوا الدِّينَ ولاَ تتفرَّقُوا فِيهِ ) (سورة الشورى : 13) فهذا يقتضي أنه كان متعبدًا بشرع ـ فالجواب أن ذلك فيما لا تختلف فيه الشرائع من التوحيد وإقامة الدين، أما تفاصيل الشرائع فلم يعرفْها حتى جاء في الإسلام.