روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال : ” أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام وأحب الصيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما” فهذا الحديث يبين أن نوم نصف الليل الأول يعين على الاستيقاظ في النصف الثاني، فيقوم ثلث الليل، ثم ينام السدس الأخير ليستعين بذلك على القيام بنشاط وقت الفجر .
وإذا لم يمكن أن جمع المسلم بين الحسنيين فلا يضيع صلاة الفجر فهي الفريضة. وليستعين بمنبه يوقظه على صلاة الفجر.
الأسباب المعينة على قيام الليل وصلاة الفجر :-
1- الإخلاص لله تعالى : أمر الله تعالى بإخلاص العمل له دون ما سواه : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) ، فكلما قوي إخلاص العبد كان أكثر توفيقاً إلى الطاعات والقربات ، وفي حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ” رواه أحمد صحيح الجامع 2825 . قال مطرف بن عبدالله بن الشخير : صلاح العمل بصلاح القلب ، وصلاح القلب بصلاح النية .
قال ابن القيم رحمه الله : وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته يكون توفيقه سبحانه وإعانته ، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم ونياتهم ورغبتهم ورهبتهم ، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك .
ولذا حرص السلف الكرام أشد الحرص على إخفاء الطاعات كقيام الليل ؛ سأل رجل تميم بن أوس الداري رضي الله عنه فقال له : كيف صلاتك بالليل ؟ فغضب غضباً شديداً ثم قال : والله لركعة أصليها في جوف الليل في السر أحب إلي من أن أصلي الليل كله ، ثم أقصه على الناس . وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله ، فإذا قرب الفجر رجع فاضطجع في فراشه ، فإذا طلع الصبح رفع صوته كأنه قد قام تلك الساعة .
2- أن يستشعر مريد قيام الليل أن الله تعالى يدعوه للقيام : فإذا استشعر العبد أن مولاه يدعوه لذلك وهو الغني عن طاعة الناس جميعاً كان ذلك أدعى للاستجابة ، قال تعالى : ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً ) ، قال سعد بن هشام بن عامر لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله ﷺ فقالت : ألست تقرأ ( يا أيها المزمل ) قلت : بلى ، فقالت : إن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي ﷺ وأصحابه حولاً ، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة . رواه مسلم .
3- معرفة فضل قيام الليل : فمن عرف فضل هذه العبادة حرص على مناجاة الله تعالى ، والوقوف بين يديه في ذلك الوقت ، ومما جاء في فضل هذه العبادة ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل ، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم ” رواه مسلم .
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال : ” أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، ويصوم يوماً ويفطر يوماً ” متفق عليه . وعن عمرو بن عبسة أن النبي ﷺ قال : ” أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر ، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن ” رواه الترمذي والنسائي .
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاته فيقول الله جل وعلا : أيا ملائكتي انظر إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي ، وشفقة مما عندي ” رواه أحمد وهو حسن ، صحيح الترغيب 258 .
وقيام الليل يطرد الغفلة عن القلب كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال : من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين ” رواه أبوداود وابن حبان وهو حسن ، صحيح الترغيب 635 . قال يحى بن معاذ : دواء القلب خمسة أشياء : قراءة القرآن بالتفكر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع عند السحر ، ومجالسة الصالحين .
4- النظر في حال السلف والصالحين في قيام الليل ومدى لزومهم له : فقد كان السلف يتلذذون بقيام الليل ، ويفرحون به أشد الفرح ، قال عبد الله بن وهب : كل ملذوذ إنما له لذة واحدة ، إلا العبادة ، فإن لها ثلاث لذات : إذا كنت فيها ، وإذا تذكّرتها ، وإذا أعطيت ثوابها . وقال محمد بن المنكدر : ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث : قيام الليل ، ولقاء الإخوان ، والصلاة في جماعة .
وقال ثابت البناني : ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل وقال يزيد الرقاشي : بطول التهجد تقر عيون العابدين ، وبطول الظمأ تفرح قلوبهم عند لقاء الله . قال مخلد بن حسين : ما انتبهت من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله ويصلي ، فأَغتمُّ لذلك ، ثم أتعزى بهذه الآية ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) .
وقال أبو عاصم النبيل : كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته . وعن القاسم بن معين قال : قام أبو حنيفة ليلة بهذه الآية ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) يرددها ويبكي ، ويتضرع حتى طلع الصبح . وقال إبراهيم بن شماس : كنت أرى أحمد بن حنبل يُحيي الليل وهو غلام .
وقال أبو بكر المروذي : كنت مع الإمام أحمد نحواً من أربعة أشهر بالعسكر ولا يدع قيام الليل وقرآن النهار ، فما علمت بختمة ختمها ، وكان يسرّ ذلك . وكان الإمام البخاري : يقوم فيتهجد من الليل عند السحر فيقرأ ما بين النصف إلى الثلث من القرآن ، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال .
وقال العلامة ابن عبد الهادي يصف قيام شيخ الإسلام ابن تيمية : وكان في ليله منفرداً عن الناس كلهم خالياً بربه ، ضارعاً مواظباً على تلاوة القرآن ، مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية ، وكان إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة .
وقال ابن رجب في شيخه الإمام ابن القيم : وكان ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى ، ولم أشاهد مثله في عبادته وعلمه بالقرآن والحديث وحقائق الإيمان . وقال الحافظ ابن حجر يصف شيخه الحافظ العراقي : وقد لازمته ، فلم أره ترك قيام الليل بل صار له كالمألوف .
5- النوم على الجانب الأيمن : وقد كان النبي ﷺ يرشد أمته إلى النوم على الجانب الأيمن ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليفضه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلّفه عليه ، ثم ليضطجع على شقه الأيمن ، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ” متفق عليه .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال : إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ” متفق عليه ، وعن حفصة رضي الله عنها قالت : كان النبي ﷺ إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن ” رواه الطبراني ، صحيح الجامع 4523 .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : وفي اضطجاعه ﷺ على شقه الأيمن سر ، وهو أن القلب معلّق في الجانب الأيسر ، فإذا نام على شقه الأيسر استثقل نوماً ، لأنه يكون في دعة واستراحة فيثقل نومه ، فإذا نام على شقه الأيمن فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم لقلق القلب وطلبه مستقره وميله إليه .
6- النوم على طهارة : تقدم حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وفيه أن النبي ﷺ قال : ” إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ” متفق عليه ، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً فيتعارّ من الليل ، فيسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه ” رواه أبو داود وأحمد ، صحيح الجامع 5754 .
وجاء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال : ” طهّروا هذه الأجساد طهركم الله ، فإنه ليس عبد يبيت طاهراً إلا بات معه في شعاره ملك ، لا يتقلب ساعة من الليل إلا قال : اللهم اغفر لعبدك ، فإنه بات طاهراً ” رواه الطبراني ، قال المنذري : إسناد جيد ، صحيح الجامع 3831 .
7- التبكير بالنوم : النوم بعد العشاء مبكراً وصية نبوية ، وخصلة حميدة ، وعادة صحية ومما جاء في فضله حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يستحب أن يؤخر العشاء ، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها ” رواه البخاري ، نقل الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض في قوله : “وكان يكره النوم قبلها ” قال : لأنه قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقاً ، أو عن الوقت المختار ، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم قبل الصبح ، أو عن وقتها المختار ، أو عن قيام الليل .
وقال ابن رافع : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينِشّ الناس بدِرّته بعد العتمة ويقول : قوموا لعل الله يرزقكم صلاة . ومما يتعلق بالنوم : اختيار الفراش المناسب ، وذلك بعدم المبالغة في حشو الفراش ، وتليينه وتنعيمه لأن ذلك من أسباب كثرة النوم والغفلة ، ومجلبة للكسل والدّعة ، وثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كانت وسادة النبي ﷺ التي ينام عليها بالليل من أدم حشوها ليف . رواه أبوداود وأحمد ، صحيح الجامع 4714 .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب دخل على رسول الله ﷺ وهو على حصير قد أثر في جنبه الشريف فقال عمر : يا نبي الله لو اتخذت فراشاً أوْثر من هذا ؟ فقال ﷺ : ما لي وللدنيا ، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف ، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ، ثم راح وتركها . رواه أحمد والحاكم ، صحيح الجامع 5545.
وكان علي بن بكار رحمه الله تفرش له جاريته فراشه ، فيلمسه بيده ثم يقول : والله إنك لطيب ، والله إنك لبارد ، والله لا علوتك ليلتي ، ثم يقوم يصلي إلى الفجر . ومن ذلك عدم الإفراط في النوم والاستغراق فيه ، قال إبراهيم ابن أدهم : إذا كنت بالليل نائماً ، وبالنهار هائماً ، وفي المعاصي دائماً ، فكيف تُرضي من هو بأمورك قائماً .
8- المحافظة على الأذكار الشرعية قبل النوم : فإن هذه الأذكار حصن حصين يقي بإذن الله من الشيطان ، ويعين على القيام ، ومن هذه الأذكار ، ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” إذا أوى أحدكم إلى فراشه ، فلينفضه بداخلة إزاره ، فإنه لا يدري ما خلّفه عليه ، ثم ليضطجع على شقّه الأيمن ، ثم ليقل : باسمك ربي وضعت جنبي ، وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ” متفق عليه .
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما يقرأ (قل هو الله أحد) و (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات ” متفق عليه .وعن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ” متفق عليه . وعن أنس بن مالك رضي الله أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه قال : ” الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا ، وكفانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي له ” رواه مسلم .
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقصة الشيطان معه قال له : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي (الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) حتى تختمها ، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، فذكر ذلك أبو هريرة للنبي ﷺ فقال له : صدقك وهو كذوب ” متفق عليه .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لابنته فاطمة رضي الله عنها لما جاءت إليه تطلب منه خادماً ، فقال لها ولعلي : ألا أدلكما على خير لكما من خادم ،إذا أويتما إلى فراشكما ، فسبّحا ثلاثاً وثلاثين ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين ، وكبرا أربعاً وثلاثين ، فإنه خير لكما من خادم ” متفق عليه .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” اقرأ ( قل يا أيها الكافرون) عند منامك ، فإنها براءة من الشرك ” رواه البيهقي ، صحيح الجامع 1172 .
وعن حفصة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن وقال : رب قني عذابك يوم تبعث عبادك ” رواه أبو داود ، صحيح الجامع 4532 .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال : ” إذا أتيت إلى مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل : اللهم أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيك الذي أرسلت ، فإن متّ متّ على الفطرة ، واجعلهن آخر ما تقول ” متفق عليه .
وينبغي كذلك أن يحافظ المسلم على الأذكار الشرعية عند الاستيقاظ ، ومنها : ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : “إذا استيقظ أحدكم فليقل : الحمد لله الذي رد علي روحي ، وعافاني في جسدي ، وأذن لي بذكره ” رواه الترمذي والنسائي ، صحيح الجامع 326 .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : من تعارّ من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله سبحان الله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : اللهم اغفر لي ، أو دعا استجيب له ، فإن توضأ ثم صلى قُبلت صلاته ” رواه البخاري .
قال الإمام ابن بطال : وعد الله على لسان نبيه ﷺ أن من استيقظ من نومه لَهِجاً بتوحيد ربه ، والإذعان له بالملك ، والاعتراف بنعمه بحمده عليها ، وينزهه عما لا يليق به بتسبيحه والخضوع له بالتكبير ، والتسليم له بالعجز عن القدرة إلا بعونه ، أنه إذا دعاه أجابه ، وإذا صلى قبلت صلاته ، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به ، ويخلص نيته لربه سبحانه وتعالى . وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : كان النبي ﷺ إذا استيقظ من نومه قال : ” الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ” رواه مسلم .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ كان إذا استيقظ من الليل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم ينظر إلى السماء ويقرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران : ( إن في خلق السماوات والأرض …) الآيات . رواه مسلم ، قال الإمام النووي : فيه استحباب مسح أثر النوم عن الوجه ، واستحباب قراءة هذه الآيات عند القيام من النوم .
9- الحرص على نومة القيلولة بالنهار : وهي إما قبل الظهر أو بعده ، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ” رواه الطبراني ، الصحيحة 2647 ، قال إسحاق بن عبدالله : القائلة من عمل أهل الخير ، وهي مجمة للفؤاد مَقْواة على قيام الليل . ومرّ الحسن البصري بقوم في السوق في وسط النهار فرأى صخبهم وضجيجهم فقال : أما يقيل هؤلاء ، فقيل له : لا فقال : إني لأرى ليلهم ليل سوء .
10- اجتناب كثرة الأكل والشرب : فإن الإكثار منهما من العوائق العظيمة التي تصرف المرء عن قيام الليل ، وتحول بينه وبينه كما جاء في حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” ما ملأ آدمي وعاءاً شراً من بطنه ، حسْب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه ” رواه الترمذي وابن ماجه ، صحيح الجامع 5674 .
وعن أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لرجل تجشأ في مجلسه : أقصر من جشائك ، فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً يوم القيامة ” رواه الحاكم ، صحيح الجامع 1190 . قال سفيان الثوري : عليكم بقلة الأكل ، تملكوا قيام الليل . ورأى معقل بن حبيب قوماً يأكلون كثيراً فقال : ما نرى أصحابنا يريدون أن يصلوا الليلة . وقال وهب بن منبه : ليس من بني آدم أحب إلى شيطانه من الأكول النوام .
11- مجاهدة النفس على القيام : وهذا من أعظم الوسائل المعينة على قيام الليل لأن النفس البشرية بطبيعتها أمارة بالسوء تميل إلى كل شر ومنكر فمن أطاعها فيما تدعو إليه قادته إلى الهلاك والعطب ، وقد أمرنا الله تعالى بالمجاهدة فقال : ( وجاهدوا في الله حق جهاده) وقال سبحانه : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) وقال تعالى : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ) وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” المجاهد من جاهد نفسه في الله ” رواه الترمذي وابن حبان ، الصحيحة 549 .
وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : ” الرجل من أمتي يقوم من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقَد ، فإذا وضأ يديه انحلت عقدة ، وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة ، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة ، وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة ، فيقول الله عز وجل للذين من وراء الحجاب : انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ، ويسألني ، ما سألني عبدي فهو له ” رواه أحمد وابن حبان ، صحيح الترغيب 627 .
قال محمد بن المنكدر : كابدت نفسي أربعين عاماً حتى استقامت لي . وقال ثابت البناني : كابدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة . وقال عمر بن عبد العزيز : أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس . وقال عبد الله بن المبارك : إن الصالحين فيما مضى كانت تواتيهم أنفسهم على الخير ، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كره فينبغي لنا أن نكرهها . وقال قتادة : يا ابن آدم : إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا بنشاط ، فإن نفسك إلى السآمة وإلى الفترة وإلى الملل أميل ، ولكن المؤمن هو المتحامل .
12- اجتناب الذنوب والمعاصي : فإذا أراد المسلم أن يكون مما ينال شرف مناجاة الله تعالى ، والأنس بذكره في ظلم الليل ، فليحذر الذنوب ، فإنه لا يُوفّق لقيام الليل من تلطخ بأدران المعاصي ، قال رجل لإبراهيم بن أدهم : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء ؟ فقال : لا تعصه بالنهار ، وهو يُقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف ، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف . وقال رجل للحسن البصري : يا أبا سعيد : إني أبِيت معافى ، وأحب قيام الليل ، وأعِدّ طهوري ، فما بالي لا أقوم ؟ فقال الحسن : ذنوبك قيدتْك . وقال رحمه الله : إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل ، وصيام النهار . وقال الفضيل بن عياض : إذا لم تقدر على قيام الليل ، وصيام النهار ، فأعلم أنك محروم مكبّل ، كبلتك خطيئتك .
13- محاسبة النفس وتوبيخها على ترك القيام : فمحاسبة النفس من شعار الصالحين ، وسمات الصادقين قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) . قال الإمام ابن القيم : فإذا كان العبد مسئولاً ومحاسباً على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً ) فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب .
وقيام الليل عبادة تصل القلب بالله تعالى ، وتجعله قادراً على التغلب على مغريات الحياة الفانية ، وعلى مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات ، ونامت العيون وتقلب النّوام على الفرش . ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة ، وسمات النفوس الكبيرة ، وقد مدحهم الله وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى : ( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) .
هل كان النبي ﷺ يقوم الليل:
قيام الليل سنة مؤكدة حث النبي ﷺ على أدائها بقوله : ” عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، ومقربة إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة عن الإثم مطردة للداء عن الجسد ” رواه الترمذي وأحمد .
وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال : ” أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ” ، وقد حافظ النبي ﷺ على قيام الليل ، ولم يتركه سفراً ولا حضراً ، وقام ﷺ وهو سيد ولد آدم المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حتى تفطّرت قدماه ، فقيل له في ذلك فقال : ” أفلا أكون عبداً شكوراً ” متفق عليه .
هل كان السلف يقومون الليل:
كان حال السلف الكرام رحمة الله تعالى عليهم قيام الليل ؛ قال أبو الدرداء رضي الله عنه : صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور . وقال أحمد بن حرب : عجبت لمن يعلم أن الجنة تزيّن فوقه ، والنار تضرم تحته ، كيف نام بينهما .
وكان عمر بن ذر إذا نظر إلى الليل قد أقبل قال : جاء الليل ، وللّيل مهابة ، والله أحق أن يهاب ، ولذا قال الفضيل بن عياض : أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال : ليس هذا لكِ ، قومي خذي حظك من الآخرة .
وقال الحسن : ما نعلم عملاً أشد من مكابدة الليل ، ونفقة المال ، فقيل له : ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً ؟ قال : لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره .
وكان نساء السلف يجتهدن في قيام الليل مشمرات للطاعة ، فأين نساء هذه الأيام عن تلك الأعمال العظام .
قال عروة بن الزبير أتيت عائشة رضي الله عنها يوماً لأسلم عليها فوجدتها تصلي وتقرأ قوله تعالى : ( فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ) ترددها وتبكي ، فانتظرتها فلما مللت من الانتظار ذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت إلى عائشة فإذا هي على حالتها الأولى تردد هذه الآية في صلاتها وتبكي .
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : قال لي جبريل : راجع حفصة فإنها صوامة قوامة . رواه الحاكم ، صحيح الجامع 4227 .
وقامت معاذة العدوية من التابعيات الصالحات ليلة زفافها هي وزوجها صلة بن أشيم يصليان إلى الفجر ، ولما قتل زوجها وابنها في أرض الجهاد ، كانت تحيي الليل كله صلاة وعبادة وتضرعاً ، وتنام بالنهار ، وكانت إذا نعست في صلاتها بالليل قالت لنفسها : يا نفس النوم أمامك .
وكانت حبيبة العدوية إذا صلت العشاء ، قامت على سطح دارها وقد شدت عليها درعها وخمارها ، ثم تقول : إلهي ، غارت النجوم ، ونامت العيون ، وغلقت الملوك أبوابها ، وبابك مفتوح ، وخلا كل حبيب بحبيبه ، وهذا مقامي بين يديك ، ثم تقبل على صلاتها ومناجاتها لربها إلى السحر ، فإذا جاء السحر قالت : اللهم هذا الليل قد أدبر ، وهذا النهار قد أسفر ، فليت شعري هل قبلت مني ليلتي فأهني ، أم رددتها علي فأعزي .
وقامت عمرة زوج حبيب العجمي ذات ليلة تصلي من الليل ، وزوجها نائم ، فلما دنا السحر ، ولم يزل زوجها نائماً ، أيقظته وقالت له : قم يا سيدي ، فقد ذهب الليل ، وجاء النهار ، وبين يديك طريق بعيد وزاد قليل ، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ، ونحن قد بقينا .