يقول الدكتور يوسف القرضاوي:
لابد مع الإيمان بوجود الله ووحدانيته من الإيمان بأنه تعالى متصف بكل كمال يليق بذاته الكريمة، منـزه عن كل نقص: قال تعالى: (لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد) (الإخلاص:3-4 ) وقال تعالى: (ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير) (الشورى: 11).
دل على ذلك: هذا الكون البديع وما فيه من إحكام عجيب، وهدت إلى ذلك الفطرة البشرة النيرة، وفصلت ذلك رسالات الله تعالى إلى أنبيائه.
-فهو سبحانه العليم الذي لا يخفى عليه شيء: قال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا ورطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) (الأنعام: 59).
-وهو العزيز الفعال لما يريد، الذي لا يغلبه شيء، ولا يقهر إرادته شيء قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير) (آل عمران: 26).
-وهو القدير الذي لا يعجزه شيء. يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويحيي العظام وهي رميم، ويعيد الخلق كما بدأهم أول مرة وهو أهون عليه قال تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) (الملك: 1).
-وهو الحكيم الذي لا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يترك شيئاً سدىً، ولا يفعل فعلاً، أو يشرع شرعاً إلا لحكم، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. وهذا ما شهد به الملائكة هذا الملأ الأعلى قال تعالى: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم) (البقرة: 32).
-وما شهد به أنبياء الله وأولياؤه، وأولوا الألباب من عباده قال تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك) (آل عمران: 191).
-وهو الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، ووسعت رحمته كل شيء، كما وسع علمه كل شيء، وقد حكى القرآن دعاء الملائكة قال تعالى: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) (غافر: 7) وقال تعالى: (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء) (الأعراف : 156) وقد بدأ سور القرآن «بسم الله الرحمن الرحيم» للدلالة على سعة رحمته وتقوية الرجاء في قلوب عباده، وإن تورطوا في الذنوب والآثام قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم) (الزمر: 53).
الإله في الإسلام ليس بمعزل عن هذا الكون وما فيه ومن فيه كإله أرسطو الذي سماه «المحرك الأول» أو «العلة الأولى» ووصفه بصفات كلها لا فاعلية لها ولا تأثير، ولا تصريف ولا تدبير، فإن هذا الإله -كما صورته الفلسفة الأرسطية- لا يعلم إلا ذاته، ولا يدرى شيئاً عما يدور في هذا الكون العريض.
إله أرسطو والفلسفة اليونانية لم يخلق هذا الكون من عدم، بل العالم عندهم أزلي غير محدث ولا مخلوق.
وإله أرسطو لا صلة له بهذا العالم، ولا عناية له به، ولا يدبر أمراً فيه، لأنه لا يعلم ما يجري فيه مما يلج في الأرض أو يخرج منها، وما ينـزل من السماء أو يعرج فيها. كل ما يقوله أرسطو ومن تبعه عن الإله أنه ليس بجوهر ولا عرض وليس له بداية ولا نهاية، وليس مركباً ولا جزءاً من مركب وليس داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، وهذه السلبيات لا تجعل الإله كائناً يرجى ويخشى، ولا تربط الناس بربهم رباطاً محكماً يقوم على المراقبة والتقوى والثقة والتوكل والخشية والمحبة.
هذا الإله المعزول عن الكون -الذي عرفه الفكر اليوناني، وعنه انتقل إلى الفكر الغربي الحديث- لا يعرفه الإسلام، وإنما يعرف إلهاً (خلق الأرض والسموات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو، له الأسماء الحسنى) (طه: 4 – 8) (الله لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يؤده حفظهما، وهو العلي العظيم) (البقرة: 255).
الإله في الإسلام هو خالق كل شيء، ورازق كل حي، ومدبر كل أمر، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمة، خلق فسوى، وقدَّر فهدى، يسمع ويرى، ويعلم السر والنجوى قال تعالى:(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة) (المجادلة: 7).
له الخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب.
له ما في السموات وما في الأرض مِلكاً ومُلكاً قال تعالى:(الأولى بكسر الميم والثانية بضمها). لا يملك أحد مثقال ذرة في السموات والأرض، وما لأحد فيهما من شرك، الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، والأرض وما عليها ممهدة بقدرته، مسيرة بمشيئته، وفق حكمته.
هو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ثم يجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله، وهو الذي سخر الفلك لتجري في البحر بأمره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو الذي جعل الأرض ذلولاً ليمشى الناس في مناكبها ويأكلوا من رزقه.
كل من في السموات والأرض خلقه وعباده، الملائكة في السموات، والجن والإنس في الأرض، كلهم في قبضة قدرته، وطوع مشيئته: الملائكة جنده المطيعون بفطرتهم، قال تعالى:(لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) (الأنبياء: 27). قال تعالى:(لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: 6).
والجن والإنس -وإن أعطاهم الحرية والاختيار- لا يخرجون عن مشيئته وسلطانه، لا يملكون لأنفسهم موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ومن تمرد منهم على العبودية له اليوم فسوف يعترف بها غداً قال تعالى:(إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدَّهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) (مريم: 93 – 95).
هو -تعالى شأنه- مع عباده جميعاً بعلمه وإحاطته: قال تعالى:(وهو معكم أين ما كنتم) (الحديد:4) وهو مع المؤمنين خاصة بتأييده ومعونته قال تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (النحل: 128) وقال تعالى:(وأن الله مع المؤمنين) (الأنفال:19).
الكون كله عاليه ودانيه، صامته وناطقه، أحياؤه وجماداته كله خاضع لأمر الله، منقاد لقانون الله، شاهد بوحدانيته وعظمته، ناطق بآيات علمه وحكمته، دائم التسبيح بحمده، قال تعالى: (تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنه كان حليماً غفوراً) (الإسراء: 44).
إن تسبيح الكون لله، وسجوده لله، حقيقة كبيرة، عميت عنها أعين، وصمت عنها آذان، ولكنها تجلت للذين ينظرون بأعين بصائرهم، ويسمعون بآذان قلوبهم، فإذا هم يرون الوجود كله محراباً، والعوالم كلها ساجدة خاشعة، ترتل آيات التسبيح والثناء على العزيز الحكيم، الرحمن الرحيم قال تعالى:(ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال) (الرعد:15) وقال تعالى:(ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس) (الحج: 18) قال تعالى:(سبح لله ما في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم * له ملك السموات والأرض، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير * هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم) (الحديد: 1 – 3).