المسلم يعذر بالجهل في دقائق المسائل الفقهية كالفرعيات في الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، ولكن لا يقبل العذر بالجهل في الأمور التي تتوقف عليها صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة ، وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها.

وعدم صحة الصوم من الحائض ووجوب قضاء ما فاتها من أيام الصوم بسبب الحيض هذا من الأمور التي لا يقبل فيها الاعتذار بالجهل، ومن ثم فيجب على من أفطرت بسبب الحيض أن تقضي ما فاتها من أيام الصوم في الأعوام الماضية.

يقول الدكتور حسام عفانه – أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين-:

ينبغي أن يعلم أولاً أن الحائض لا تصوم لأن من شروط الصيام الطهارة من الحيض وقد كنت أظن أن هذا الحكم معروف بين النساء ولكنني علمت من خلال أسئلة بعض النساء أنهن كن يصمن حال الحيض ولا يعرفن أنه لا يجوز للحائض الصوم، ومما يدل على منع الحائض من الصيام ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (… أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ) رواه البخاري ومسلم.

وينبغي أن يعلم ثانياً أن العلماء قد اتفقوا على وجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان بسبب الحيض، فقد ورد في الحديث عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) رواه البخاري ومسلم.

ومعاذة هي بنت عبد الله العدوية، وهي معدودة في فقهاء التابعين قولها: ( أحرورية أنت؟) الحروري منسوب إلى حروراء، بلدة على ميلين من الكوفة، ويقال لمن يعتقد مذهب الخوارج حروري لأن أول فرقة منهم خرجوا على علي رضي الله عنه بالبلدة المذكورة فاشتهروا بالنسبة إليها وهم فرق كثيرة، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم الأخذ بما دل عليه القرآن ورد ما زاد عليه من الحديث مطلقاً. تحفة الأحوذي 1/345.

وينبغي أن يعلم ثالثاً أن العذر بالجهل ليس مقبولاً على إطلاقه عند أهل العلم بل المسألة فيها تفصيل فهنالك أمور من الدين، العلم بها فرض عين ولا يعذر المسلم بجهلها، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/140.

والمقصود بالعلم الذي هو فريضة ما هو فرض عين ، والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله ، وحدُّ هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة ، وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها .

قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله:[من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/42.

وقال الإمام النووي: [ … فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها ] المجموع 1/42.

فهذا النوع من العلم هو الذي لا يسع المسلم أن يجهله، وهو علم العامة كما قال الإمام الشافعي: [ قال لي قائل‏:‏ ما العِلْمُ‏؟‏ وما يَجِبُ على الناس في العلم‏؟‏ فقلت له‏:‏ العلم عِلْمان‏:‏ علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ‏.‏

قال‏:‏ ومِثْل ماذا‏؟‏ قلت‏:‏ مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه‏.‏

وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم‏.‏

وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ‏.‏

قال‏:‏ فما الوجه الثاني‏؟‏ قلت له‏:‏ ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا‏.] الرسالة ص 357-359.

وقال جلال الدين السيوطي:[ كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنا والقتل والسرقة والخمر والكلام في الصلاة والأكل في الصوم. ] الموسوعة الفقهية الكويتية 16/199.

وما يدل على أن المسلم لا يعذر بالجهل في هذا القسم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذر الجهل من الرجل الذي أساء الصلاة فلم يعتد بصلاته فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً، فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري ومسلم.

ويدخل في هذا القسم وجوب قضاء الحائض ما أفطرته من رمضان فهذا الحكم لا تعذر المرأة بالجهل به بشكل عام ما دامت تعيش في ديار الإسلام.

وهنالك حالات يعذر فيها المسلم بالجهل كمن يجهل دقائق المسائل الفقهية كالفرعيات في الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها فقد عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي بال في المسجد كما ورد في الحديث عن أبي هريرة أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري ومسلم.

وكما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أحرم في ملابس مطيبة فعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق أو قال أثر صفرة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي … قال أين السائل عن العمرة اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) رواه البخاري ومسلم.

إذا تقرر هذا فإن الواجب على المرأة التي أفطرت في أشهر رمضان السابقة القضاء سواء كان الفطر بعذر أو بدون عذر وجوب القضاء فقط ولا تجب عليه الفدية.

لقوله تعالى:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } سورة البقرة الآية 184 . وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قول الحنفية ونقل عن إسحاق بن راهويه والحسن البصري والنخعي واختاره الإمام الشوكاني، وإن كان جمهور الفقهاء على خلافه، قال الإمام الشوكاني:[ وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب ] نيل الأوطار 4/263.

وخلاصة الأمر أن المرأة الحائض لا يجزئ منها الصيام ولا يجوز لها الإقدام عليه أصلاً ويلزمها قضاء ما أفطرته من رمضان، وأن المسلم لا يعذر بالجهل في الأحكام المعروفة والمشهورة بين المسلمين ويعذر بالجهل بالمسائل الفرعية التفصيلية.