فرائض الوضوء المتفق عليها هي غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، واختلف الفقهاء في القدر المجزئ، وغسل الرجلين إلى الكعبين، أما الفرائض المختلف فيها فهي النية والترتيب والموالاة بين أفعال الوضوء والدلك.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الطهارة باختصار يسير:
الوضوء المطلوب للصلاة له فرائض لا بد منها، ولا يصح الوضوء إلا بها، وأساسها قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) المائدة 6
فرائض الوضوء المتفق عليها:
والفرائض المتفق عليها في الوضوء هي المذكورة في تلك الآية الكريمة من سورة المائدة، وهي في الجملة: غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين.
غسل الوجه
أول هذه الفرائض أو الأركان كما يسميها بعضهم: غسل الوجه. والوجه معروف لغة وشرعا، ولا داعي لتحديده وتعريفه كما حدده بعض الفقهاء، وهو ما بين منبت الشعر وأسفل الذقن طولا، وما بين شحمتي الأذنين عرضا.
ويكفي فيه ما ينطبق عليه اسم الغسل، وهو جريان الماء على العضو، بحيث يفرق بين الغسل والمسح. وقد اشترط بعض الفقهاء (الدلك) حتى يسمى غسلا. والراجح عندي: أن الدلك سنة، وليس بفرض.
وهل تدخل المضمضة والاستنشاق في غسل الوجه؟
ذهب إلى ذلك الحنابلة، واحتجوا بأن الذين وصفوا وضوءه ﷺ من الصحابة لم يذكروا أنه ترك مرة المضمضة ولا الاستنشاق، وفعله هذا بيان للقرآن، فيدل على الوجوب.
ورأيي أن هذا أحوط، ولكن الظاهر: أن غسل الوجه لا يتضمن بالضرورة: المضمضة والاستنشاق، فهما في الوجه، ولكنهما لا يعتبران جزءا من غسل الوجه، ودوام فعلهما منه ﷺ دليل على السنية وتأكيد الاستحباب.
غسل اليدين إلى المرفقين
وثاني فرائض الوضوء أو أركانه: غسل اليدين إلى المرفقين، كما تضمنت الآية الكريمة. وهل يدخل المرفقان في الفرض المغسول أو لا يدخلان؟
اختلف العلماء في ذلك، واختلافهم مبني على أمر لغوي أو نحوي، وهو: هل (إلى) للغاية أو بمعنى (مع). والحق أنها تحتمل الأمرين، فإذا ورد ما يدل على أحدهما تعين، وإلا فلا.
قالوا: وقد ورد هنا ما يدل على دخول الغاية أي أنها بمعنى (مع) وذلك من فعله ﷺ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أنه توضأ حتى أشرع في العضد، وقال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ.
ولذا نرى الأحوط للمسلم: أن يلتزم غسل المرفقين مع يديه.
ومما يجب التنبيه عليه هنا: ألا يوجد حائل يمنع وصول الماء إلى البشرة، مثل الشمع ونحوه، ومن هنا ننبه على أن وجود صبغ الأظفار المسمى (المانوكير) الذي يستعمله بعض النساء، الذي يغطي الأظفار بطبقة لها سُمْك: يمنع صحة الوضوء، لأن هناك عشرة مواضع في عشرة أظفار، لم يصل إليها الماء، لأنها مغطاة بهذه الطبقة من الصبغ. فإذا كان بعض النساء يفعل ذلك في أظفار الرجلين أيضا، كان بطلان الوضوء أشد وأوضح.
روى أحمد ومسلم عن عمر بن الخطاب: أن رجلا توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، (أي لم يصله الماء) فأبصره النبي ﷺ، فقال: ارجع فأحسن وضوءك” فرجع فتوضأ ثم صلى.
المسح بالرأس
وثالث الفرائض: هو المسح بالرأس كما قال تعالى: (وامسحوا برؤوسكم). والمسح هو: الإصابة بالبلل. ولا يتحقق إلا بحركة العضو الماسح ملصقا بالممسوح، لهذا كان مجرد وضع اليد أو الأصبع على الرأس أو غيره: لا يسمى مسحا.
ولا خلاف في أن مسح الرأس أو المسح بالرأس فرض في الوضوء. إنما وقع الخلاف في القدر المتعيَّن من المسح: هل هو كل الرأس أو بعضه؟ وإذا كان بعضه فما قدره؟
والسنة الصحيحة وردت بالبيان، ففيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح بعض الرأس في بعض الحالات.
كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة بن شعبة: أنه ﷺ توضأ، ومسح بناصيته وعلى العمامة.
وعند أبي داود من حديث أنس: أنه ـ ﷺ ـ أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه ـ ﷺ ـ مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمر عليها ـ ﷺ ـ. فاقتضى هذا سنية هذه الهيئة التي داوم عليها عليه الصلاة والسلام، وهي مسح الرأس مقبلا ومدبرا، وإجزاء غيرها في بعض الأحوال.
هذا ودلالة اللغة تساعدنا في هذا المقام، فإنك إذا قلت: مسحت الحائط، أو مسحت بالحائط، فإن المعنى للمسح يتحقق بمسح جزء من الحائط، ولا يلزم المسح بالحائط كله. ولا ينكر هذا إلا مكابر، كما قال الشوكاني.
أما القدر الذي يكفي مسحه من الرأس، فقال الشافعية: يكفي مسح شعرات من الرأس. وقال الحنفية بوجوب مسح ربع الرأس، مقدرين مسح الناصية الذي ورد به الحديث: بمقدار ربع الرأس. ورأيي أنه تقدير مناسب.
هل الأذنان من الرأس؟
ورد في ذلك حديث من طريق ثمانية من الصحابة يقول: ” الأذنان من الرأس ” ولكن لا تخلو أسانيدها من مقال، والذين احتجوا به، قالوا: يقوي بعضها بعضا، فتصلح للاحتجاج بها. وقال الشيخ أحمد شاكر: بل كل طرقه ضعيفة، والضعيف لا حجة فيه.
وقد ثبت عنه ﷺ: أنه مسحهما مع مسح رأسه، وثبت أنه مسح ظاهرهما وباطنهما.
وهذا يدل على استحباب أو سنية مسحهما مع مسح الرأس، وهي الهيئة الكاملة في مسح كل الرأس.
ولكن لا دليل على أن مسحهما من فرائض الوضوء، لما بينا أن مسح بعض الرأس يجزئ، وإن كانا من الرأس.
غسل الرجلين إلى الكعبين
ورابع فروض الوضوء: غسل الرجلين إلى الكعبين. والكعبان، هما: العظمان الناتئان عند مفصل القدم والساق. وهو ما دلت عليه القراءة المشهورة لآية المائدة، وما ثبت وتواتر من فعل رسول الله ـ ﷺ ـ وقوله.
أما الآية فقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) المائدة: 6 بنصب أرجلكم، عطفا على وجوهكم، وما بعدها.
وأما السنة، فما ثبت عنه ﷺ في جميع الأحاديث الواردة في حكاية وضوئه، فإنها جميعا مصرحة بالغسل، وليس في شيء منها أنه مسح ـ إلا في روايات لا تقوم بمثلها حجة. يؤيد ذلك ما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث: “ويل للأعقاب من النار” كما يؤيده الأمر بغسل الرجلين، كما في حديث جابر عند الدارقطني وقوله ـ ﷺ ـ بعد الوضوء: ” فمن زاد على ذلك أو نقص، فقد أساء وظلم ” وهو حديث رواه أهل السنن، وصححه ابن خزيمة رحمه الله.. ولا شك أن المسح بالنسبة للغسل نقص.
وقوله للأعرابي: “توضأ كما أمرك الله” ثم ذكر له صفة الوضوء، وفيها غسل الرجلين.
وهذه كلها أحاديث صحيحة معروفة.
ويؤكد ذلك: أن الله تعالى حد الرجلين إلى الكعبين، فهو نظير حد غسل اليدين إلى المرفقين.
وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: اجتمع أصحاب رسول الله ـ ﷺ ـ ورضي الله عنهم على غسل القدمين.
وقال محمد بن جرير الطبري والحسن البصري والجبائي: أنه مخير بين الغسل والمسح، إعمالا للقراءتين.
وقد وقع الإجماع على الغسل. قال النووي: ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به. وقال ابن حجر في (الفتح): إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك. قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله ﷺ على غسل القدمين. رواه سعيد بن منصور.
وبالجملة فاستمراره ﷺ على الغسل، وعدم فعله للمسح أصلا إلا في المسح على الخفين، وصدور الوعيد منه على من لم يغسل، وتعليمه لمن علمه أنه يغسل رجليه، وقوله ” هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به “: يدل على أن قراءة الجر منسوخة، أو محمولة على وجه من وجوه الإعراب كالجر على الجوار، أو محمولة على المسح على الخفين، الثابت ثبوتا أوضحَ من شمس النهار، حتى قيل: إنه روي من طريق أربعين من الصحابة. وقيل: من طريق سبعين منهم، وقيل: من طريق ثمانين منهم.
فرائض الوضوء المختلف فيها:
الفرائض الأربع التي ذكرناها: متفق عليها، ومنصوص عليها في القرآن الكريم.
وهناك فرائض أخرى مختلف فيها بين الأئمة رضي الله عنهم.
النية
من هذه الفرائض: النية، فجمهور الفقهاء (مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والليث وغيرهم) على أنها من الفرائض في الوضوء، لقوله عليه الصلاة والسلام: “إنما الأعمال بالنيات” وهو حديث صحيح متفق عليه، تلقته الأمة كلها بالقبول. ولفظ (إنما) يفيد الحصر، كأنه قال: لا عملَ إلا بنية. ومعناه: لا صحة للعمل إلا بالنية، أو لا قبول للعمل عند الله إلا بالنية.
وقد اتفق العلماء على أن (النية) شرط في (المقاصد)، واختلفوا في (الوسائل). فلا خلاف بينهم في اشتراطها في (الصلاة)، وإن اختلفوا في اشتراطها في (الوضوء) باعتباره وسيلة للعبادة المقصودة والمفروضة من الله، وهي الصلاة.
وهو ما ذهب إليه الحنفية ورد عليه ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين) بواحد وخمسين وجها.
والذي يخفف من حدة الخلاف هنا: أن النية لغة وشرعا: هي عقد القلب على الفعل، وهذه لا تفارق أي مسلم يتوضأ للصلاة. فلو سألته: ماذا تفعل؟ لقال: (أتوضأ)، ولم يقل: (أتنظف)! فقوله (أتوضأ) يعني: أنه يقصد التعبد والقربة إلى الله تعالى.
وليست النية إذن: أن تقول: نويت الوضوء، أو نويت رفع الحدث الأصغر، كما يقول بعض الناس. فالتلفظ بالنية في الوضوء ليس له أصل في الشرع، ولم يرد به حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وإن أجازه بعض الفقهاء.
ربما غسل بعضهم أعضاءه للنظافة، أو اغتسل للنظافة، ولم يخطر بباله التعبد، ثم بدا له أن يصلي. فهذه هي التي يكون فيها الخلاف، وهي نادرة.
الترتيب
ومن الفرائض المختلف فيها: الترتيب بين أعضاء الوضوء الأربعة المذكورة، فيغسل وجهه، ثم يديه إلى المرفقين، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه إلى الكعبين، كما ذكر الله تعالى في كتابه.
هذا مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد، وهو مروي عن عثمان وابن عباس من الصحابة، ورواية عن عليٍّ، رضي الله عنهم، وبه قال قتادة وأبو ثور وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
وقال آخرون: لا يجب الترتيب، وحكاه البغوي عن أكثر العلماء. وحكاه ابن المنذر عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء ومكحول والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك وأصحابهما والمزني وأبو داود. واختاره ابن المنذر.
احتج القائلون بوجوب الترتيب بدليلين: أولهما من القرآن والآخر من السنة.
الأول: أن آية الوضوء ذكرت ممسوحا بين مغسولات، وعادة العرب إذا ذكرت أشياء متجانسة، وأشياء غير متجانسة: جمعت المتجانسات على نسق، ثم عطفت غيرها عليها. لا يخالفون ذلك إلا لفائدة، فلو لم يكن الترتيب هنا واجبا، لما قطع النظير عن نظيره.
والثاني: أن الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي ﷺ، كلها وصفته مرتبا مع كثرة المواطن التي رأوه فيها. ولم يثبت مرة واحدة أنه ترك الترتيب، ولو جاز تركه، لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز، كما ترك التكرار في بعض الأوقات.
واحتج القائلون بعدم وجوب الترتيب بآية الوضوء نفسها بأن العطف فيها بـ (الواو) والواو لا تقتضي ترتيبا، فكيفما غسل المتوضئ أعضاءه كان ممتثلا للأمر، كما لو قال لخادمه: إذا دخلت السوق فاشتر خبزا وتمرا، لم يلزمه تقديم الخبز على التمر، بل كيف اشتراهما كان ممتثلا.
وكذلك لأن الوضوء طهارة، فلم يجب فيها ترتيب كالجنابة، وكتقديم اليمين على الشمال، والمرفق على الكعب.
ولأنه لو اغتسل المحدث دفعة واحدة: ارتفع حدثه.
والذي يترجح لي: أن الترتيب لا يوجد دليل على وجوبه، وإن كان المنطقي والطبيعي أن يتوضأ المسلم على الترتيب المذكور، بادئا بما بدأ الله تعالى به، ولذا كان سنة مؤكدة من غير شك.
الموالاة
ومنها: الموالاة، على معنى ألا يفصل بين الأعضاء بفاصل زمني يفرق بينها. واستثنى بعضهم: التفريق اليسير، وألحق به آخرون: التفريق الكثير.
وقال آخرون: الموالاة ليست من الفرائض.
واحتج الموجبون بما رواه أبو داود والبيهقي عن خالد بن معدان عن بعض الصحابة: أن النبي ﷺ رأى رجلا يصلي.. وفي ظهر قدمه لُمْعَةٌ قدر الدرهم لم يصبه الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. وذكر النووي أن هذا الحديث ضعيف الإسناد، فلا يحتج به.
وعن عمر بن الخطاب: أن رجلا توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي ﷺ، فقال: ارجع فأحسن وضوءك.. فرجع، ثم صلى ” رواه مسلم . وهذا الحديث ليس فيه دلالة واضحة على وجوب الموالاة.
وعن عمر أيضا موقوفا عليه: أنه قال لمن فعل ذلك: أعد وضوءك. وفي رواية: اغسل ما تركت.
قال النووي: الرواية الأولى: للاستحباب، والأخرى: للجواز.
واحتج من لم يقل بوجوب الموالاة في الوضوء: بأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء، ولم يوجب موالاة.
كما استدلوا بالأثر الصحيح الذي رواه مالك عن نافع: أن ابن عمر توضأ في السوق، فغسل وجهه ويده، ومسح رأسه، ثم دُعي إلى جنازة، فدخل المسجد، ثم مسح على خفيه، بعد ما جف وضوؤه، وصلى” قال البيهقي: هذا صحيح عن ابن عمر مشهور بهذا اللفظ. وهذا دليل حسن، فإن ابن عمر فعله بحضرة حاضري الجنازة، ولم ينكَر عليه.