روى البخاري ومسلم أن النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ” إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّكم تَخْتَصِمُون إليَّ، ولعَلَّ بعضكم يكون ألْحَنَ بِحُجَّته من بعض فأقْضِي له بنَحْوِ ما أَسْمَع، فمن قَضَيْتُ له بحق أخيه فإنَّما أقْطَعُ له قطعةً من النَّار “.

وروى أبو داود والطبراني بإسناد جيد، والحاكم وصححه، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ” مَنْ أعَان على خُصُومَة بغير حق كان في سَخَطِ الله حتى يَنْزِع ” وفي رواية للطبراني ” من أعان ظالمًا بباطل ليُدْحِضَ به حقاً فقد بَرِىء من ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله .

تُبَيِّن هذه الأحاديث خطورةَ اسْتِيلاء إنسانٍ على حق غيره ظُلْمًا، حتى لَوْ قَضَى القَاضِي بذلك بناءً على ما لَدَيْه من شهودٍ وقَرَائن، فإنه يَحْكُم بما ظهر له، والله يَتَوَلَّى السَّرائر، كما تُبَيِّن أنَّ مَنْ دخل في خُصُومَة ونزاعٍ مع غيره مُسْتَعِينًا بالباطل والزُّور ليَغْلِبَ صاحبَ الْحَق الَّذي لم يَسْتَطِعْ أن يُثْبِتَه بالْوَسائل المعروفة، فهو في سَخَطِ الله حتى يتوب من ذَنبِه ويُعِيدَ الحق إلى صاحبه .

وهذا واضحٌ فيمَنْ يكون طَرَفًا في الْخُصُومَة ويُبَاشِر بنفسه إثبات حَقه أو نَفي التُّهْمَة عنه، وكذلك ينْطَبِق هذا الحُكْم على من يكون وَكِيلًا لأَحَدِ الطَّرَفَيْن المُتَنَازِعَيْن، وقد نصَّ القرآن الكريم في آية الدَّيْن من سورة البقرة 282 على تَحَرِّي العَدْل في كتابته، وأمر الله وليَّ الصغير أو المَحْجُور عليه إذا تَوَلَّى عنه كتابة الْوَثِيقَة أن يَتَّقى الله في تَحَرِّي الحق والصواب، قال تعالى : ( ولْيُمْلِل الَّذي عَلَيْه الْحَقُّ ولْيَتَّق الله رَبَّه ولا يَبْخَسَ منه شَيْئًا * فإنَّ كان الَّذي عَلَيْه الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيع أنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِل وَلِيُّه بالْعَدْل ) ( سورة البقرة : 282 ) .

والمحامي وكِيلٌ عَنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْن في الخصومة، فعليه أن يكون مُتَّقيًا لله مُرَاقِبًا له وَحْدَه، فإنَّ كان يَعْلَمُ أنَّ الحَقَّ في جانب مُوَكِّله فلا حرج عليه في النِّيابة عنه، بل يُؤْجَر على ذلك مادياً وأدبيًا ودينيًا ودنيويًا، فهو من باب التعاون على البِرِّ والتَّقْوَى ومن باب نُصْرَة المَظْلُوم ومُسَاعَدة القاضي على الحُكْمِ بالْحَقِّ.

أمَّا إذا كان يَعْلَمُ أنَّها قَضِيَّةٌ خاسِرَة لكنه يَسْتَطِيعُ بوسائل يَتفَنَّن فيها أن يَنْتَزِعَ الْحَقَّ من الظَّالم، أو يُبَرِّئ مُوَكِّله من التُّهْمَة المُوَجَّهَة إليه زُورًا، فإن الأحاديث واضحةٌ في التَّحْذِير الشَّديد من المُسَاعدة على الْبَاطل . ومن سلوك الطُّرق المُعْوَجَّة لدَحْضِ الْحَقِّ منها حديث رواه أبو داود ” ومَنْ أعان على خُصُومة بظُلْمٍ فقد بَاءَ بغَضَبٍ من الله ” .

وإلى جانب المَعُونة على الباطل فيه شهادة من المُحَامي بأنَّ مُوَكِّله غيرُ مُذْنِبٍ، وهي شهادة باطلة وقد يَنْطَبِقُ عليه الحديث ” ومن قال في مُؤْمِنٍ ما ليس فيه أَسْكَنَه اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَال حتى يخرج مما قال ” ورَدْغَةُ الخَبَال هي عُصَارة أهل النَّار أو عَرَقُهُم، كما جاء مُفَسَّرًا في صحيح مسلم وغيره . وفي حديث غريب ـ أي رواه واحدٌ فقط ـ رواه الطبراني في مُعْجَمِه الكبير ” من مَشَى مع ظالمٍ ليُعِينَه وهو يَعْلَم أنَّه ظالمٌ فقد خَرَجَ من مِلَّةِ الإسْلام ” والمعنى الظاهر صحيح إن اعْتَقَدَ أنَّ مَعُونةَ الظَّالم حَلال، فاعتقاد أنَّ الْحَرام حَلالٌ كُفْرٌ .

وقد صرَّح الإمام الغزالي في كتابه ” إحياء علوم الدين ” بأنَّ وَكِيل الْخُصُومة يَحِلُّ له أَخْذُ الأَجْرِ إذا خاصم في حَقٍّ، ويَحْرُم إنْ خَاصَمَ في بَاطِلٍ، فلْيَكُن أمامنا جميعًا قول الله سبحانه : ( هَا أَنْتُمْ جَادَلْتُمْ عَنْهُم فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) ( النساء : 109) .