اختلفت آراء الفقهاء حول عدد الرضعات المثبت للتحريم والرأي الراجح في هذه المسألة هو خمس رضعات مشبعات، وأن تكون الرضاعة في الحولين الأولين.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
إن ما أفتي به السادة العلماء في (بنجلاديش) مبني علي مذهبهم الذي التزموه، ولم يدرسوا غيره، وهو المذهب الحنفي، الذي يحرم بما قل من الرضاع وكثر، ولو برضعة واحدة، ولو بمصة واحدة، وهذا ما نصت عليه كتب السادة الحنفية، وأجمعت عليه، ومن هنا كانت الفتوى الصادرة من هؤلاء العلماء صحيحة بالنسبة للمذهب الذي يقلدونه.
ولكن القرآن والسنة لم يوجبا علينا اتباع مذهب معين لا نحيد عنه في صغيرة ولا كبيرة، ولم يوجب ذلك أحد من الأئمة المتبوعين أنفسهم، ولم يوجبه الإمام أبو حنيفة ولا أحد من أصحابه علي أحد بعده.
لهذا لا يوجد مانع شرعي من الخروج من الضيق إلي السعة إذا كانت هذه السعة مع مذهب آخر، من المذاهب التي قبلتها الأمة، ورضيتها في مجموعها.
فالذي نقول به: ما عليه مذهب الشافعية والحنابلة، وهو أن التحريم إنما يكون بخمس رضعات مشبعات معلومات، وقد أيد ذلك الحديث الصحيح.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: ” لا تحرم المصة ولا المصتان.
وأخرج أيضًا من حديث أم الفضل رضي الله عنها قالت: دخل أعرابي إلي النبي – صلي الله عليه وسلم- وهو في بيتي، فقال: يا نبي الله، إني كانت لي امرأة، فتزوجت عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولي أنها أرضعت امرأتي الجديدة رضعة أو رضعتين، فقال النبي – صلي الله عليه وسلم – : “لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان” أي الرضعة.
وفي رواية أخري للحديث: “لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان”.
وأخرج مالك في الموطأ، وأحمد في المسند من حديث عائشة: أن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال لسهلة امرأة أبي حذيفة في قصة سالم مولاه: “أرضعيه خمس رضعات” أي لكي يحرم عليها، فهذا يدل علي أن ما دون خمس رضعات لا يحرم.
وأخرج مسلم وغيره عن عائشة أيضًا: كان فيما نزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وهي فيما يقرأ من القرآن، وقد روي بألفاظ مختلفة.
وفي الحديث مناقشة، ولكن الذي يهمنا منه هو ثبوت حكم التحريم في الرضاع بخمس رضعات معلومات، لا فيما هو أدني من ذلك، وقد كان الحكم السابق عشر رضعات، وهذا هو الذي يتفق مع حكمة التحريم بالرضاع، وهو أنه يثبت نوعًا من الأمومة بين المرضعة والرضيع، وعليها تتفرع الأخوة أيضًا، وهذا لا يثبت برضعة أو رضعتين، فكلما زاد عدد الرضعات كان أقرب إلي تحقيق تلك الأمومة.
ثم إن الرضعات الخمس هي التي يمكن أن تفتق الأمعاء، وتنبت اللحم، وتنشر العظم كما جاء في بعض الأحاديث الأخري.
وإذا كان النص قد حدد الرضاع المحرم بخمس رضعات، فإنه لم يحدد مقدار كل رضعة، بل ترك ذلك للعرف، كما ترك أشياء كثيرة لعرف الناس كالقبض في البيع، والحرز في السرقة، وإحياء الموات وغيرها.
والعرف لا يعتبر الرضعة إلا ما أشبع، ولهذا يقول الناس: إن الطفل يحتاج كل يوم إلي أربع رضعات أو خمس، يعنون: الرضعة التي هي للطفل بمثابة الوجبة للكبير.
وعلى هذا الأساس يكون من المباح أن تتزوج بابنة عمتك المذكورة، ولا تكون هذه الرضعة التي لم تستمر أكثر من دقيقتين كما شرحت في سؤالك: مانعة من الزواج بها علي ما بينته من مذهبي الإمامين: الشافعي وأحمد بن حنبل، وقد أيدتهما الأحاديث الصحاح في ذلك.
ويقول فضيلة الشيخ عطية صقر ـ رحمه الله ـ:
قال تعالى في آية المحرّمات من النّساء:( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعِة) [ سورة النساء : 23 ] .
والرضاع المحرِّم للمصاهرة اختلف الفقهاء في عدد مراته، ويتلخص ذلك فيما يلي:
1 ـ قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم، أي بالمرّة الواحدة والمرّات الكثيرة، وبالقدر القليل في الرضعة الواحدة والكثير منها، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة. وزعم الليث بن سعد أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم، وهذا القول رواية عن أحمد.
وحجتُهم أن الله علَّق التحريم باسم الرّضاعة، فحيث وجد اسمها وجد حكمها، ولأنّه فعل يتعلق به التحريم فاستوى قليله وكثيره، وذلك للاحتياط في الأبضاع بالذات، ولأن إنشاز العظم وإنبات اللحم يحصل بالقليل والكثير، ولأنّ القائلين بالعدد اختلفت أقوالهم في الرضعة وحقيقتها، ولأن النبي ـ ﷺ ـ لما رفعت له قضية عقبة بن الحارث الذي تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، وجاءت أَمة سوداء فقالت: قد أرضعتهما، لم يسأل الرسول ـ ﷺ ـ عن عدد الرضعات، وهو في الصحيحين عن عائشة.
2 ـ لا يثبت التحريم بأقلّ من ثلاث رضعات، وهو رواية ثانية عن أحمد بن حنبل، ودليل هذا الرأي حديث:” لا تُحَرِّم المصّة ولا المصّتان ” وفي رواية ” لا تُحَرِّم الإملاجة والإملاجتان ” رواه مسلم عن عائشة، وأقل مرتبة في التحريم بالعدد بعد المرتين هو الثلاثة.
3 ـ لا يثبت التحريم بأقل من خمس رضعات، وهو مذهب الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه، وقول ابن حزم الذي خالف داود الظاهري في هذه المسألة، وهو أحد الروايات الثلاث عن عائشة، والرواية الثانية عنها أنه لا يحرم بأقل من سبع رضعات، والثالثة لا يحرم بأقل من عشر.
وحجة القائلين بالخمس حديث عائشة في الصحيحين البخاري ومسلم: كان فيما نزل من القرآن” عشرُ رضعات يحرمن” ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفِّي رسول الله ـ ﷺ ـ وهن فيما يقرأ من القرآن، وما رواه مسلم أن النبي ـ ﷺ ـ قال لسهلة بنت سُهيل:” أرضعي سالمًا خمس رضعات تحرمي عليه” .
قالوا : عائشة أعلم الأمة بحكم هذه المسألة هي ونساء النبي ﷺ، وكانت عائشة إذا أرادت أن تدخل عليها أحدا أمرت إحدى بنات إخوتها أو أخواتها أن ترضعه خمس رضعات، وقالوا أيضًا: نفي التحريم بالرّضعة والرّضعتين صريح في عدم تعليق التحريم بالقليل والكثير، وهي ثلاثة أحاديث صحيحة صريحة.
والتعليق بالخمس لا يخالف نصًّا، وإنما هو تقييد للمطلق، فهو بيان للقرآن لا نسخ ولا تخصيص. ومن علق التحريم بالثلاث خالف أحاديث الخمس، واختار القضاء المصري هذا الرأي وعليه الفتوى.
ثم إن القائلين بالرأيين الأولين ردّوا حديث عائشة؛ لأنّها نقلته نقل قرآن، ولا يقبل فيه الآحاد، بل لابد في قَبوله من التواتر، وعلى هذا لا يثبت به حكم مادام غير قرآن، ورد عليهم أصحاب الرأي الثالث بأن خبرها يقبل قبول الأحاديث ويكفي فيه خبر الواحد، لأنه مادام لم يقبل كقرآن فليس هناك إلا أن يقبل كحديث نبوي؛ لأنّه لا يصح نسبته إليها كقول خاصٍّ بها، فإن هذا الأمر لا يقال فيه بالرأي، ولذلك عده رجال الحديث من السنة النبوية. والموضوع مبسوط في كتاب ” زاد المعاد ” لا بن القيم ج4 ص 167 ـ 182 وملخص في الجزء الأول من ” موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام ” ص 361.
هذا، واشترط القائلون بالتحريم بتعدد الرضعات أن يكون العدد متيقنًا، ولو حدث شك في ذلك لا يثبت التحريم، ومن هنا أنبِّه مَن تقوم بإرضاع غير طفلها أن تسجل ذلك أو تُعْلِمَ به عددًا من الناس حتى يشتهر أمره، حتى لا يتمّ في المستقبل زواج بين أخوين من الرّضاعة في غيبة الأم المرضع أو نسيانها.