الميت لا يدري شيئًا مما يحدث في عالم الأحياء؛ لأنه موجود في عالم آخر. لكن ورد في الحديث أن الميت عندما يوضع في قبره يحسّ بأقدام الناس من فوقه. كما ورد أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خاطب قتلى المشركين في يوم بدر، وسأله الصحابة: هل هؤلاء يسمعون ما تقول؟ فأجابهم: “ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، لكنهم لا يستطيعون الكلام”.

ومثل هذه الروايات محصورة في الفترة القريبة من لحظة الوفاة. أما بعد ذلك فإن الميت ينتقل نهائيًّا إلى عالم آخر، ولا يعود يشعر بشيء مما يجري في هذه الدنيا، مصداقًا لقوله تعالى: “وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور”.

يقول الشيخ عطية صقر – رحمه الله تعالى -:-

هناك مسائل كثُر الكلام فيها بما يتصل بالعلاقة بين الأحياء والأموات نذكر أهمها فيما يلي:

عرض الأعمال على الرسول والأموات

روى البزَّار بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مرفوعًا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “حياتي خيرٌ لكم تُحَدِّثُون ويُحَدَّثُ لَكُمْ، فإذا أنا مِتّ كانت وفاتي خيرًا لكم، تُعْرَضُ عليّ أعمالكم، فإن رأيتُ خيرًا حمدتُ الله، وإن رأيت شرًا استغفرت لكم.

وأخرج أحمد والحكيم الترمذي في “نوادر الأصول” وابن مِنده حديث: “إن أعمالكم تُعْرَضُ على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن رأوْا خيرًا استبشروا به، وإن كان غيرَ ذلك قالوا: اللهم لا تُمتْهم حتى تَهْدِيهم كما هَدَيْتنا”. وأخرج مثله الطيالسي في مسنده. وجاء عن الحكيم الترمذي في نوادره “إن الأعمال تُعْرَضُ على الله يومَي الإثنين والخميس، وعلى الأنبياء والأولياء يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم” وروى البيهقي في “شُعب الإيمان” حديث “اتَّقوا الله في إخوانكم من أهل القبور، فإن أعمالكم تُعْرَضُ عليهم” وأورد ابن القيم في كتابه “الروح” أثرًا يدل على علم الميت بما يحصل من الحي.

وكل ذلك لا يثبِت عقيدة، فمن لم يصدِّق فلا يُكَفَّر، كما أنه لا يوجد دليل قوي يمنع تصديق هذه الأخبار.

سماع الموتى للأحياء

إن سماع الأنبياء والشهداء لمن يُسلِّم عليهم في قبورهم أمر يسهُل التصديق به ما دامت الحياة قد ثبتت لهم، وبخاصة أن هذا السماع ممكن لغيرهم، بل دلَّ الدليل عليه، ويستوي في ذلك المؤمنون وغير المؤمنين، لما يأتي:

1 ـ جاء في الصحيح أن الميت إذا دُفِنَ وتولَّى عنه أصحابه وهو يسمع قَرْعَ نعالهم يجيئه الملكان ليسألاه…

2 ـ وجاء في الصحيح أيضًا نداء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقتْلى المشركين في بدر بعد إلقائهم في القليب، وقوله لهم: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا.. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جِيفوا؟ فقال “والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمعَ منهم لما أقول، ولكنَّهم لا يستطيعون جوابًا”.

3 ـ وفي الصحيح أيضًا “إن الميت ليُعَذَّب ببكاءِ أهله عليه”. قال النووي في شرح صحيح مسلم: معناه أنه يُعَذَّب بسماعه بكاء أهله ويرِقُّ لهم، وإلى هذا ذهب الطبري، قال القاضي عياض: وهو أوْلى الأقوال، واحتجوا له بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زجَرَ امرأة عن البكاء على ابنها وقال: “إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تُعَذِّبوا إخوانكم”.

4 ـ شرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته السلام على أهل القبور بمثل “السلام عليكم دار قوم مؤمنين” وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مُجْمِعُون على ذلك.

5 ـ حديث “إذا مرَّ الرجل بقبر يعرفه فسلَّم عليه ردَّ عليه السلام وعرَفَه، وإذا مرَّ بقبر لا يعرف فسلَّم عليه ردَّ عليه السلام”. ويأتي حُكْمه في المسألة التالية:

بهذا وبغيره من الآثار الكثيرة التي ذكرها ابن القيم في كتاب الروح يكون سماع الأموات للأحياء ممكنًا، وقد أنكرت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ سماع أهل القليب لنداء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وظنَّ جماعة أن ذلك يَنْسَحِب على كل الموتى من الكفار وغيرهم، وردَّ هذا بأنَّ إنكارها لسماع الكفار هو الإنكار الوارد في قوله تعالى: (فإنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) (الروم: 52) وقوله: (ومَا أَنْتَ بِمُسِمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور) ( فاطر: 22 ). فالمراد به سماع القبول والإيمان، حيث شبَّه الله الكفار الأحياء بالأموات، لا من حيث انعدام الإدراك والحواس، بل من حيث عدم قبولهم الهُدى والإيمان؛ لأن الميت حين يبلغ حدَّ الغَرْغَرَة لا ينفعه الإيمان لو آمن، فالسماع الثابت في الأحاديث الصحيحة سماع الحاسة، والسماع المنفي في الآيتين سماع القبول، ولذلك جاء بعد قوله تعالى: (فإنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) قوله تعالى (إنْ تُسْمِعُ إلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بآيَاتِنَا) فأثبت للمؤمنين سماعَ القبول.

وممَّا يُؤَكِّدُ أن عائشة ـ رضى الله عنها ـ نَفَتْ سماع القبول عن الكفار لا سماع الحِسِّ أنها هي التي روت حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” ما من رجل يزور قبرَ أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به وردَّ السلام عليه حتى يقوم ” وقيل إنها نفَت سماع الكفار لنداء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأثبتت عِلْمَهم به فقالت: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إنهم الآن لَيَعْلمون أن ما قلتَ حَقٌّ، والعلم يستلزم السماع ولا ينافيه. لكن قد يردُّ بأن علمهم بما قال الرسول لا يستلزم سماعهم له؛ لأنهم علموا ذلك بمعاينة العقاب المعد لهم.

ولا يُردُّ على سماع الميت ما قاله الأحناف من أن الميت لا يسمع: لو حلف الإنسان لا يكلِّم شخصًا فمات هذا الشخص وكلَّمه ميتا لا يحنث، لا يرد هذا؛ لأن الأَيْمان مبنية على العُرْف، فلا يلزم منه نفي حقيقة السماع، كما قالوا فيمن حلف لا يأكل اللَّحم فأكل السمك لا يحنث، مع أن الله سمَّاه لحمًا طريًا في قوله: ( وهوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْه لَحْمًا طَرِيًا ) ( النحل: 14 ). وذلك جريًا على العُرْف.

وقد يقال: إن سماع الموتى للأحياء من خصوصيات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لكن يُرَدُّ هذا بعدم وجود الدليل على الاختصاص.

وقال ابن تيمية في كتاب ” الانتصار للإمام أحمد “: إنكار عائشة سماع أهل القليب معذورة فيه لعدم بلوغها النص، وغيرها لا يكون معذورًا مثلها؛ لأن هذه المسألة صارت معلومة من الدين بالضرورة.

إحساس الميت بالزائر وعلمه بمن يموت

قال ابن تيمية في الفتاوى: مسألة في الأحياء إذا زاروا الأموات هل يعلم الأموات بزيارتهم، وهل يعلمون بالميت إذا مات من أقاربهم أو غيره أم لا ؟

الجواب، نعم، قد جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم وعَرْضِ أعمال الأحياء على الأموات، كما روى ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري قال: إذا قُبِضَتْ نفس المؤمن تلقَّاها أهل الرحمة من عباد الله، كما يتلقوْن البشير في الدنيا، فيُقْبِلُون عليه ويسألونه فيقول بعضهم لبعض: انظروا أخاكم يستريح فإنه كان في كَرْبٍ شديد، قال فيُقْبِلُون عليه ويسألونه ما فعل فلان، ما فعلتْ فلانة، هل تزوجت… الحديث.

وأما علْمُ الميت بالحي إذا زاره ففي حديث ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” ما من أحد يمرُّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلَّم عليه إلا عرَفَه وردَّ عليه السلام “. قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وصحَّحه عبد الحق صاحب الأحكام.

وقال ابن تيمية أيضًا في موضع آخر من فتاويه: إن الميت يسمع خَفْقَ نِعال المشيِّعين حين يُوَلُّون عنه، كما ثبت في الصحيحين، وبعد سياق عدة أحاديث، قال: تبيَّن من هذه النصوص أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، وذكر أن روحه تعاد إلى بَدَنه في ذلك الوقت، وتُعاد في غير ذلك أيضًا، وجاء في عدة آثار أن الأرواح تكون في أفنية القبور.

ورُويت أخبار تدل على أن رُوح الميت تكون في يد المَلَك ينظر إلى جسده كيف يُغَسَّل، وكيف يُكَفَّن، وكيف يُشَيَّع، ويُقال له على سريره: اسمع ثَنَاءَ الناس عليك.

وأخرج أحمد والحاكم عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت: كنت أدخل البيت فأضع ثوبي وأقول: إنما هو أبي وزوجي، فلمَّا دُفِنَ عمر ما دخلته إلا وأنا مشدودة على ثيابي حياءً من عُمَر، وجاء في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص ـ رضى الله عنه ـ أنه قال في مرض موته: إذا دفنْتموني فشُنُّوا عليّ التراب شنًا، وأقيموا عند قبري قدر ما تُنْحَرُ جزور ويُقَسَّم لحمُها، آنس بكم وأنظر ماذا أُرَاجِعُ رُسُل ربي.

تزاوُّر الموتى

في صحيح مسلم ” إذا وَلِيَ أحدكم أخاه فليُحْسِن كَفَنَه ” قيل: إن العِلَّة فيه تزاوُّر الموتى وتباهيهم بالأكفان، كما نصَّ عليه في أحاديث أخرى، منها: ما أخرجه الترمذي وابن ماجة والبيهقي ” إذا ولِيَ أحدُكم فليُحْسِن كفنه فإنهم يتزاورون في قبورهم “. وقال: ابن تيمية في فتاويه إنهم يتزاورون، سواء أكانت المدائن متقاربة في الدنيا أم متباعدة. وقال الفقهاء بتحسين الأكفان لهذه العِلَّة، وللسيوطي كتاب في ذلك عنوانه ” شرح الصدور “، وقال ابن القيم في كتاب الروح: إن الحي يرى الميت في منامه فيستخيره، ويخبره الميت بما لا يعلمه الحي فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل.

تصرُّف الموتى بأمر الله

قال السيوطي في شرح الصدور: قال الحافظ ابن حجر في فتاواه: إن أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكفار في سجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوي لا يشبه الاتصال في الحياة الدنيا، بل أشبه شيء به حال النائم وإن كان هو أشد حالاً من حال النائم، فالأرواح مأذون لها في التصرُّف وتأوي إلى محلِّها من عليين أو سجين وإن قيل إنها عند أفنية القبور. وأورد السيوطي ما أخرجه ابن عساكر عن رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجعفر بن أبي طالب بعد استشهاده، وما أخرجه الحاكم عن ردِّه السلام على جعفر حيث رآه في مجلسه مع أسماء بنت عميس ومعه جبريل وميكائيل يسلِّمون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وحكى له جعفر ما حدث في يوم استشهاده، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلن ما رآه للناس على المنبر.

اطِّلاع الأحياء على حال أهل القبور

أورد صاحب المِنْحَة الوهبيّة حكايات عن رؤية بعض الناس أمواتًا يصلون في قبورهم، وأن بعضهم سمع قراءة القرآن من قبر ثابت البناني، وسمع بعضهم من أحد القبور قراءة سورة “المُلْك” ولما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك قال “هي المانعة، هي المُنْجِية تنجِّي من عذاب القبر” هذا الحديث رواه الترمذي عن ابن عباس وقال إنه حديث غريب، أي رواه راوٍ واحدٍ فقط.

وثبت في الصحيحين قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ “لولا أن تَدَافنوا لدعوتُ الله أن يُسْمعكم من عذاب القبر ما أسمع” كما صحَّ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ بقبرين يُعَذَّب من فيهما بسبب النميمة وعدمِ الاستبراء من البول، وأنه وضع جريدًا على القبرين عسى أن يُخَفِّف الله عنهما العذاب.

وجاء في “الروح” لابن القيم، وفي “شرح الصدور” للسيوطي، وفي “أهوال القبور” لابن رجب ما يفيد أن رجلاً رأى رجلاً عند “بدر” يخرج من الأرض فيضربه رجل بمِقْمَعة حتى يغيب في الأرض، وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “ذاك أبو جهل يُعَذَّب إلى يوم القيامة.

هل يسمع أو يشعر الميت بما يدور حوله أثناء الجنازة

جاء في كتاب “مشارق الأنوار” للعدوى ص 21: أن الميت يَعْرِف من يُغَسِّله ويَحْمِله ومن يُكَفِّنه ومن يدلِّيه في حُفرته، وأن روح الميت في يدِ مَلَك ينظر إلى جسده كيف يُغَسَّل وكيف يُكَفَّن، ويُقال له ـ وهو على سريره ـ اسمع ثناء الناس عليك، وجاء فيه أن الميت يرى ما يصْنَع أهله، ولو قدر على الكلام لنهاهم عن العَويل والصُّرَاخ.

وكلُّ ذلك وَرَدَت به أحاديث أخرجها أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وابن مَنْدَه وأبو نعيم وأبو داود، وقد حكم على بعضٍ منها بالضعف.

ومعلوم أن العقائد لا تثبُت إلا بالدليل القطعي من الكتاب والسُّنَّة. وأحوال الموتى من الغيب الذي يعلمه الله وحده، ولا يُطِلع عليه أحدًا إلا من ارتضاه، ولا يجب علينا الإيمان إلا بما ورد من طريق صحيح. والأخبار المروية في سماع الميت كلام المشيعين لم ترْق إلى هذه الدرجة، فلا نجزم بالنفي ولا بالإثبات، حيث إن ذلك ممكن ولم يرِدْ ما يمنعه، وحيث إن ما أثبتته لم يكن بطريق الجزم. فمن صدَّق ذلك فهو حُر، ولا يجوز أن يفرض رأيه على غيره، ومن كذَّب فلا يُكَفَّر.

ولا داعي للجدال فيها، فإن ما لدينا من الثابت القوي الكثير، وأحوال الدنيا التي يجب أن نستعدَّ بها إلى الآخرة كثيرة، فلنهتم بمعرفتها وتطبيقها فذلك خيرٌ وأجدى.