البكاء في الصلاة إن كان من خشية الله تعالى والتأثر بالقرآن الكريم أو الوقوف بين يدي الله تعالى فلا يبطل الصلاة ، بل هو مقصود في ذاته، فهو أدعى إلى القبول ،أما إن كان البكاء في الصلاة تصنعا وتعمدا مراءاة وإظهارًا لعبادته أمام الناس فتبطل الصلاة ، ولا يمكن الحكم على الشخص بذلك ،لأن هذا أمر لا يعلمه إلا الله ، إلا إذا أقر هو بهذا ، أو علم على وجه اليقين.
يقول الإمام الجصاص من فقهاء الحنفية :
قال الله تعالى : { ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } ومثله قوله تعالى : { خروا سجدا وبكيا } وفيه الدلالة على أن البكاء في الصلاة من خوف الله لا يقطع الصلاة ; لأن الله تعالى قد مدحهم بالبكاء في السجود ولم يفرق بين سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجدة الشكر . وروى سفيان بن عيينة قال : حدثنا إسماعيل بن محمد بن سعد قال : سمعت عبد الله بن شداد قال : سمعت نشيج عمر رضي الله عنه وإني لفي آخر الصفوف ، وقرأ في صلاة الصبح سورة يوسف حتى إذا بلغ { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } نشج ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقد كانوا خلفه ، فصار إجماعا وروي عن النبي ﷺ : { أنه كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء } .
وقوله تعالى : { ويزيدهم خشوعا } يعني به أن بكاءهم في حال السجود يزيدهم خشوعا إلى خشوعهم وفيه الدلالة على أن مخافتهم لله تعالى حتى تؤديهم إلى البكاء داعية إلى طاعة الله وإخلاص العبادة على ما يجب من القيام بحقوق نعمه.
وفي نيل الأوطار للشوكاني يقول في شرح الحديث الذي رواه عبد الله بن الشخير قال : { رأيت رسول الله ﷺ يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء } . رواه أحمد وأبو داود والنسائي ) :
والأزيز هو أن يجيش جوفه ويغلي من البكاء . وقوله : ( من البكاء ) فيه دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة سواء ظهر منه حرفان أم لا،وقد قيل إن كان البكاء من خشية الله لمايبطل ، وهذا الحديث يدل عليه ويدل عليه أيضا ما رواه ابن حبان بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : { ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأسود ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله ﷺ تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح }، وبوب عليه ذكر الإباحة للمرء أن يبكي من خشية الله . وأخرج البخاري وسعيد بن منصور وابن المنذر أن عمر صلى صلاة الصبح وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله تعالى : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } فسمع نشيجه . واستدل المصنف على جواز البكاء في الصلاة بالآية التي ذكرها لأنها تشمل المصلي وغيره .
وعن ابن عمر قال : { لما اشتد برسول الله ﷺ وجعه ، قيل له : الصلاة ، قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فقالت عائشة : إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء ، فقال : مروه فليصل فعاودته ، فقال : مروه فليصل إنكن صواحب يوسف } .
رواه البخاري ، ومعناه متفق عليه من حديث عائشة . قوله : ( رجل رقيق ) أي رقيق القلب . وفي رواية للبخاري أنها قالت : { أبا بكر أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس } قوله : ( إنكن صواحب يوسف ) صواحب جمع صاحبة والمراد : إنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن ، وهذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به واحدة هي عائشة فقط كما أن المراد بصواحب يوسف : زليخا فقط كذا قال الحافظ ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته ، إن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه ومرادها : زيادة وهو أن لا يتشاءم الناس به كما صرحت بذلك في بعض طرق الحديث، فقالت : { وما حملني على مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه } .
وقد استدل به المصنف على جواز البكاء في الصلاة ووجه الاستدلال أن النبي ﷺ لما صمم على استحلاف أبي بكر بعد أن أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء دل ذلك على الجواز .
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية :
يرى الحنفية أن البكاء في الصلاة إن كان سببه ألما أو مصيبة فإنه يفسد الصلاة ; لأنه يعتبر من كلام الناس ، وإن كان سببه ذكر الجنة أو النار فإنه لا يفسدها ; لأنه يدل على زيادة الخشوع ، وهو المقصود في الصلاة ، فكان في معنى التسبيح أو الدعاء . ويدل على هذا حديث الرسول ﷺ { أنه كان يصلي بالليل وله أزيز كأزيز المرجل من البكاء } . وعن أبي يوسف أن هذا التفصيل فيما إذا كان على أكثر من حرفين ، أو على حرفين أصليين ، أما إذا كان على حرفين من حروف الزيادة ، أو أحدها من حروف الزيادة والآخر أصلي ، لا تفسد في الوجهين معا ، وحروف الزيادة عشرة يجمعها قولك : أمان وتسهيل .
وحاصل مذهب المالكية في هذا : أن البكاء في الصلاة إما أن يكون بصوت، وإما أن يكون بلا صوت، فإن كان البكاء بلا صوت فإنه لا يبطل الصلاة، سواء أكان بغير اختيار ، بأن غلبه البكاء تخشعا أو لمصيبة ، أم كان اختياريا ما لم يكثر ذلك في الاختياري . وأما إذا كان البكاء بصوت ، فإن كان اختياريا فإنه يبطل الصلاة ، سواء كان لمصيبة أم لتخشع ، وإن كان بغير اختياره ، بأن غلبه البكاء تخشعا لم يبطل ، وإن كثر ، وإن غلبه البكاء بغير تخشع أبطل .
هذا وقد ذكر الدسوقي أن البكاء بصوت ، إن كان لمصيبة أو لوجع من غير غلبة أو لخشوع فهو حينئذ كالكلام ، يفرق بين عمده وسهوه ، أي فالعمد مبطل مطلقا ، قل أو كثر ، والسهو يبطل إن كان كثيرا ، ويسجد له إن قل .
وأما عند الشافعية ، فإن البكاء في الصلاة على الوجه الأصح إن ظهر به حرفان فإنه يبطل الصلاة ; لوجود ما ينافيها ، حتى وإن كان البكاء من خوف الآخرة . وعلى مقابل الأصح : لا يبطل لأنه لا يسمى كلاما في اللغة ، ولا يفهم منه شيء ، فكان أشبه بالصوت المجرد . وأما الحنابلة فإنهم يرون أنه إن بان حرفان من بكاء ، أو تأوه خشية ، أو أنين في الصلاة لم تبطل ; لأنه يجري مجرى الذكر ، وقيل : إن غلبه وإلا بطلت ، كما لو لم يكن خشية ; لأنه يقع على الهجاء ، ويدل بنفسه على المعنى كالكلام ، قال أحمد في الأنين : إذا كان غالبا أكرهه ، أي من وجع ، وإن استدعى البكاء فيها كره كالضحك وإلا فلا .