من أصحاب الأعذار الذين يلحقون بالمرضى من وجه، وإن خالفوهم من وجه آخر: الشيخ الكبير، الذي وهن العظم منه، وبلغ من الكبر عتيًا، ويجهده الصوم ويلحق به مشقة شديدة ومثله المرأة العجوز، التي أضعفها الكبر فحكمهما واحد بالإجماع.
ويلحق بهما من ابتلى بمرض مزمن، إذا لحقته بالصوم مشقة ظاهرة، وهو الذي لا يرجى برؤه من مرضه، والشفاء منه، وفقًا لسنة الله الجارية على الأسباب والمسببات وإن كانت القدرة الإلهية لا يعجزها شيء.
فهؤلاء لا صوم عليهم بلا خلاف، وقد نقل الإجماع على ذلك الإمام ابن المنذر. ولا يشترط في إباحة الفطر لهؤلاء أن ينتهي أحدهم إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم بل الشرط أن يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها (انظر: المجموع -257/6،258).
والدليل على إباحة الفطر لهم قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج: 78) وقال في آية الصيام: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة :185).
ثم إن هؤلاء نوع من المرضى: فالشيخوخة مرض، وقد جاء في الحديث: ” ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، إلا الهرم ” والأصل في الاستثناء أن يكون متصلا.
والمريض الذي لا يرجى برؤه مريض على كل حال.
إنما فارقا المريض العادي بأنهما لا يستطيعان القضاء، لأن الشيخ لا يعود شابًا حتى يمكنه أن يقضي، وذا المرض المزمن لن يجد فرصة للقضاء مادام مرضه ملازما له على الدوام.
وإنما عليهما الفدية: طعام مسكين.
روى البخاري عن عطاء: أنه سمع ابن عباس يقرأ: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) قال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان عن كل يوم مسكينًا.
وروى عنه عبد الرزاق أنه كان يقرؤها: (وعلى الذين يطوقونه) أي يكلفونه ويتجشمونه بمشقة، وقد قرأت بها عائشة وغيرها من السلف (المصنف لعبد الرزاق -220/4 – 224، بتحقيق المحدث حبيب الرحمن الأعظمي).
وجاءت عنه روايات أخرى تفيد أن الآية منسوخة، ولكن حكمها باق بالنسبة للكبير الفاني.
قال ابن كثير: (فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر، ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة ؟ فيه قولان للعلماء :.
أحدهما: لا يجب عليه إطعام، لأنه ضعيف عنه لسنه، فلم يجب عليه فدية كالصبي، لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو أحد قولي الشافعي – وهو قول مالك وأيده ابن حزم -.
والثاني: وهو الصحيح، وعليه أكثر العلماء، أنه يجب عليه فدية عن كل يوم، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف، على قراءة من قرأ: (وعلى الذين يطيقونه) – لعلها يطوقونه – أي يتجشمونه. كما قاله ابن مسعود وغيره وهو اختيار البخاري) (انظر: تفسير ابن كثير -1 / 215 ط . الحلبي).
والفدية: طعام مسكين.
قدره بعض الفقهاء بمقدار (مد) وهو ربع صاع.
وبعضهم بصاع من تمر أو طعام إلا القمح، فجعل منه نصف صاع.
وبعضهم رأى إطعام المسكين ما يشبعه.
وهذا هو الأرجح، وهو الذي أفتى به الصحابة وعملوا به مثل أنس، فقد أطعم بعد ما كبر عاما أو عامين عن كل يوم مسكينًا خبزًا ولحما وأفطر.
وروى أنه صنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينًا فأطعمهم.
وقد استدل ابن عباس بالآية: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فالأولى الوقوف عند النص، وإطعام المسكين من أوسط ما يطعم الإنسان وأهله، اهتداء بما ذكره القرآن في كفارة اليمين (من أوسط ما تطعمون أهليكم) (المائدة :89)..
ويمكن ببذل القيمة إذا كان فيها مصلحة الفقراء، والقيمة هنا قيمة الطعام لو أطعمه من أوسط ما يأكل.
وتختلف من شخص لآخر، ومن بلد لآخر، ومن وقت لآخر.