يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:

المسافر الذي يمكث في بلد أربعة أيام أو أكثر، وهو ينوي أن يسافر بعد ذلك منها لا يعد مقيمًا منتفيًا عنه وصف السفر لا لغة ولا عرفًا، وإنما يُعد مقيمًا من نوى قطع السفر واتخاذ سكن له في ذلك البلد، وإن لم يتم له فيه إلا يوم أو بعض يوم، إننا نرى المسافر يخرج من بلده، وقد قدر لسفره تقديرًا منه أنه يقيم في بلد كذا ثلاثة أيام؛ وفي بلد كذا عشرة أيام، وفي بلد كذا عشرين يومًا إلخ، وهو إذا سئل في أي بلد أو سئل عنه هل هو من المسافرين السائحين؟ أم من المقيمين الوطنيين أو المستوطنين؟ لم يكن الجواب إلا أنه من المسافرين السائحين .

فالمكث المؤقت لا يسمى إقامة إلا بقيد التوقيت، بحيث لو سئل صاحبه هل أنت مقيم في هذا البلد؟ يقول: لا وإنما أنا مسافر بعد كذا يومًا، أو أمكث أيامًا معدودة ثم أسافر إلى بلد كذا، أو أعود إلى بلدي، وقد يعبر عن هذا المكث بلفظ الإقامة، وذلك لا ينافي أنه مسافر، ولا فرق في التوقيت بين اليوم الواحد والأيام، بل يصح أن يقول المسافر: إنني أقيم في هذا البلد ساعة أو ساعتين أو ساعات، ولا تخرجه هذه التسمية عن كونه مسافرًا، ولذلك ترى الشافعية الذين يشترطون في الجمعة أن تقام بأربعين فأكثر مقيمين في البلد لا يعدون من المقيمين فيه من ينوي المكث فيه أربعة أيام أو ثمانية عشر يومًا أو أكثر ثم يسافر، بل يعدونه مسافرًا لا يحسب من الأربعين، ولكنهم يناقضون أنفسهم ويعدونه مقيمًا بالنسبة إلى صلاة المسافر .

وإني لم أعجب لغلط أحد في هذه المسألة كما عجبت لغلط الشوكاني فيها؛ إذ قال: إنه يعلم بالضرورة أن المقيم المتردد غير مسافر حال الإقامة، فإطلاق اسم المسافر عليه مجاز باعتبار ما كان عليه أو ما سيكون عليه .اهـ

وإنما المعلوم بالضرورة ما ذكرناه آنفًا من عرف الناس قديمًا وحديثًا ، وهذا المجاز الذي ذكره إنما يصح فيمن كان مسافرًا وعاد إلى بلده ، فقال الناس المسلِّمون عليه : كنا نسلم على فلان المسافر ، أو هيا بنا نزور فلان المسافر، فهذا هو المجاز باعتبار ما كان عليه، وأما المجاز الآخر فمثاله قول من تجهز لسفر من بلده وعزم عليه، وقد طلب منه أن يعمل عملاً لا يعمله إلا المقيم: إنني مسافر فلا أستطيع أن أعمل بهذا العمل.

ولم يقل أحد: إن السفر عبارة عن الحركة والانتقال بين البلاد، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة عام حجة الوداع عشرًا وهو يقصر، رواه الشيخان وغيرهما، وأقام فيها عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة ويأمر أهلها بالإتمام ويقول: (يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإننا قوم سفر) رواه مالك في الموطأ، وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر أيضًا، رواه أحمد و أبو داود، فكان غير مسافر حقيقة على رأي الشوكاني بل مجازًا ، وإذًا يثبت القصر في السفر المجازي فلمَ لم يقل به ؟

وليراجع المسلم تفسير قوله تعالى : [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ] (النساء:101)الآية، فمنه يعلم أن صلاة السفر ركعتين ركعتين إلا المغرب عزيمة لا رخصة؛ خلافًا لعائشة إن صح عنها الإتمام والتأول بأنها تطيقه، وجزم بعضهم بعدم صحته؛ لمخالفته عمل النبي صلى الله عليه وسلم المطرد في القصر ولروايتها ، فهي قد روت أن الصلاة شرعت ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر كما مر مفصلاً .

فملخص الموضوع هل يتم المسافر الذي ينوي الإقامة أربعة أيام إذا أم المقيمين؟ وملخص الجواب أنه لا يتم في هذه الحالة كما لا يتم في غيرها على المختار من كون القصر عزيمة، وإلا فهو مخير.