البشر في حاجة إلى توجيه إلهي يجنبهم الضلال في الفكر، والغي في السلوك، ولذلك فما جاء الشرع بالنص عليه بتحليل أو تحريم لا يجوز الخروج عليه، وما سكت عنه الشرع فهو في دائرة العفو فللبشر أن يختاروا ما يناسبهم ويصلح أمور حياتهم وفي الحديث أن رسول الله : “إنَّ اللهَ تعالى فَرَضَ فرائِضَ فلا تُضَيِّعوها، وحَدَّ حُدودًا فلا تَعْتَدوها، وحرَّم أشياءَ فلا تَنْتَهكوها، وسَكَتَ عن أشياءَ رَحْمةً لكم غيرَ نِسيانٍ، فلا تَبْحَثوا عنها”.

وفي هذا الصدد يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي -رحمه الله تعالى-:

من مقومات المجتمع المسلم : التشريع , أو القانون الذي يحتكم إلى الشريعة ويحكم بها. والشريعة هي المنهاج الذي وضعه الله تعالى لتنظيم الحياة الإسلامية على ضوء الكتاب المبين والسنة المطهرة، ولا يكون المجتمع مجتمعاً إسلامياً إلا بتطبيقها والرجوع إليها في حياته كلها، عبادات ومعاملات، فليس من المعقول آن يأخذ المسلم من كتاب ربه: (كتب عليكم الصيام)، ولا يأخذ منه: (كتب عليكم القصاص). ولا يتصور أن يقبل آيات إيجاب الصلاة، ويرفض آيات تحريم الربا.

فالتشريع مقوم أساسي من مقومات المجتمع، فلا بد لأي مجتمع من قانون يضبط علاقاته، ويعاقب من انحرف عن قواعده، سواء أكان هذا القانون مما نزل من السماء، أم مما خرج من الأرض، فالضمائر والدوافع الذاتية لا تكفى وحدها لعموم الخلق، والمحافظة على سلامة الجماعة، وصيانة كيانها المادي والمعنوي، وإقامة القسط بين الناس، ولهذا أرسل الله رسله وأنزل كتبه لضبط مسيرة الحياة بالحق كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) كذلك أنزل الله كتابه الخالد ليحكم بين الناس، لا ليتلى على الأموات، ولا لتزين به الجدران. قال تعالى: ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله).

وآيات القرآن صريحة في وجوب الحكم بما أنزل الله:

يقول تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون، وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيراً من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)

ويلاحظ في هذه الآيات:

أولاً: أنها جاءت بعد الآيات التي تحدثت عن أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، وجاء فيها قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ، وقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) ، وقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) ، وما كان الله تعالى ليحكم على أهل الكتاب بالكفر، أو الظلم، أو الفسق، أو بها جميعاً إذا لم يحكموا بما أنزل الله، ثم يعفي المسلمين من ذلك، فليس ما أنزل الله على المسلمين، دون ما أنزله على أهل الكتاب وعدل الله واحد. وقد جاء الحكم القرآني بلفظ عام. فلا مجال لمماحك يقول: إن الآيات جاءت في أهل الكتاب لا في المسلمين).

ثانياً: أنها لم تتسامح في ترك جزء مما أنزل الله إلى رسوله، بل حذرت من ذلك بصيغة قوية قال تعالى: ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) .

ثالثاً: أن الناس بين حكمين لا ثالث لهما: إما حكم الله، أو حكم الجاهلية .. فمن لم يرض بالأول وقع في الثاني لا محالة، وفى هذا يقول تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ).

إن التشريع هو الذي ينقل التوجيهات الدينية والأخلاقية إلى قوانين ملزمة، ويعاقب على تركها. وحاجة البشر إلى تشريع رباني – سالم من قصور البشر وأهوائهم – حاجة أساسية، لا يحققها للبشر إلا التشريع الإسلامي، فهو الذي يحمل هداية الله الأخيرة للبشر، ولا يوجد في الأرض تشريع رباني آخر، لأن كل المصادر السماوية قد أصابها التحريف والتبديل، كما أثبت ذلك الدارسون المحققون من القدماء والمحدثين والمعاصرين بالنسبة للتوراة والإنجيل. المصدر السماوي الوحيد الباقي بلا زيادة ولا نقص ولا تحريف ولا تغيير هو القرآن.

إن البشر في حاجة إلى توجيه إلهي يجنبهم الضلال في الفكر، والغي في السلوك. فكثيراً ما زينت للبشر عقولهم القاصرة: جرائم بشعة، وغوايات شنيعة، حتى وجدنا أهل اسبارطة قديماً يقتلون الأطفال الضعاف البنية، والعرب في الجاهلية يئدون البنات، والهنود والرومان والفرس وغيرهم يقسمون الناس إلى طبقات يجوز لطبقة ما لا يجوز للأخرى، ويقتل بعضها عمداً فلا يقتص منه، ويقتل بعضها لأدنى الأسباب، وربما بلا سبب. ووجدنا في عصرنا من يجيز زواج الرجال بالرجال وتصدر بذلك قوانين.

ومع قصور العقل البشرى في مقابلة العلم الإلهي: نجد أن البشر كثيراً ما يتبين لهم الرشد من الغي، والنافع من الضار، ومع هذا تغلبهم أهواؤهم وشهواتهم، أو أهواء ذوى النفوذ وأصحاب المصالح الخاصة منهم، فيحلون ما يجب أن يحرم، ويحرمون ما ينبغي أن يباح.انتهى كلام الدكتور يوسف.