1 ـ شرود الذهن وعدم تركيز الفكر فيما يؤديه المصلي في صلاته من أقوال وأفعال أمر يَعرض لكل الناس، وإن كان بمقادير مختلفة وفي موضوعات متنوعة، وذلك بحكم التكوين الطَّبَعي للإنسان، في تداعي المعاني والأفكار الذي هو من مظاهر النشاط العقلي، حيث يشتدُّ ويَنْشط كلَّما كثُرت المشكلات وتعقدت الأمور ـ ولا تكاد تنْقَطع سلسلة التفكير عن الإنسان حتَّى في نومه، حيث تكُون الرؤى والأحلام، التِي هي في الغالب انعكاس لما يجري في اليقظة .

2 ـ والحياة فيها مواقف تحتاج إلى حصْر الذِّهن وترْكيز التَّفكير في حَيِّزٍ مُعَيَّن، وذلك للضبط والتثْبيت وسهولة التذكر، كما يُشاهَد مثلاً أثناء الامتحانات، أو مراقبة عمليات كيماوية أو تجربة علمية أو قيادة سيارة أو طائرة، فإنَّ تَشَتُّت الفكْر في مثل هذه الحالات عواقبه خطيرة، أو على الأقل لا يؤدى إلى النتيجة المطلوبة .

3 ـ ومن المواقف التي تُفرض على المؤمن أن يَحصر ذهنه ويَستجمع فكره فيها، مناجاته لربه في الصلاة وعند الدعاء، وذلك لمقام مَن يصلِّي له أو يدعوه، ولدقَّة المجازاة على ما يصدر منه وقتذاك .
وهو ما يشير إليه معنى الخشوع الذي مدح الله به المؤمنين في قوله تعالى ( قد أفْلح المؤمنون . الذين هم في صلاتِهم خاشِعُون ) ( المؤمنون : 1، 2 )، وقوله ( واستَعِينُوا بالصَّبر والصَّلاةِ وإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ ) (البقرة : 45 ) .

4 ـ ولكن هل يستطيع كلُّ إنسان أن يحقِّق في صلاته كلِّها الخشوع التام الذي ينقطع به التفكير في العلاقات الدنيوية، ويبْدو بِهِ المُصَلَّي ساكن الجوارح في شبه استغراق وانسجام مَع المَوْقف الرُّوحيِّ العَظِيم ؟

إنَّ هَذا الخُشُوع إذا أمْكن أن يتحقَّق عند بعض الصفوة من المؤمنين، أو في بعض الصلوات دون بعضها الآخر، فإنه صعْب عند غيرهم من الناس وما أكثرهم، وعسير في كل الصلوات، والدليل على ذلك ـ إلى جانب الواقع الذي يُحسه الناس ـ ما ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قولٍ وما ثبَت عنه من فعْل .

ا ـ فقد روى البخاري ومسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ما معناه ” إذا نُودي بالصلاة ـ يعني بالأذان ـ أدْبَر الشَّيْطان وله صوت يَخرج منه حتى لا يَسمع الأذان، فإذا قضى الأذان أقبل، فإذا ثوَّب ـ أي أُقيمت الصلاة ـ أدْبر، فإذا قضى التثْويب أقبل حتى يَخطُر بين المرء ونفْسه يقول : اذكر كذا، لِمَا لم يكُن يذْكر من قبل، حتى يَظلَّ الرَّجل ما يدْري كم صلَّى ” . وقد ثبت في الصحيحين تعرُّض الشيطان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليقْطع عليه صلاته فردَّه خاسئًا . ” صحيح مسلم ج 5 ص 28 ” .

ب ـ وروى الجماعة إلا الترمذي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضِمْن ما قال ” إنَّما أنا بشَر أنْسى كما تنسَوْن، فإذا نَسِيتُ فذكِّروني ” .

جـ ـ وروى البخاري ومسلم وغيرهما أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى إحْدى الصلوات الرُّباعية ركعتين وسلَّم، ونَبَّهه ذو اليدين بقوله : يا رسول الله، أنسِيت أمْ قصرت الصلاة ؟ فقال ” لم أنسَ ولم تقْصُر ” ولمَّا استوثَق من القوم دخَل في الصَّلاة وأتَمَّها .

فالحديث الأول يدل على أن الإنسان معرَّض في صلاته للسَّهو بسببِ الشيطان، والحديثان الآخران يَدُلان على وقوع السَّهو منه ـ صلى الله عليه وسلم . وأما ما ورد من قوله ” إنِّي لا أنْسى ولكن أُنَسَّى لِأَسُنَّ “، فقد قال الحافظ ابن حجر عنه : لا أصْل لَه، فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، والسَّهو النسيان معناهما واحد كما قال الشَّوكاني ” نيل الأوطار ج 3 ص 117 طبعة الحلبي ” وفي هذا المقام يقول الشاعر :
يا سائلي عن رسول الله كيف سها === والسهو من كل قلب غافل لاه
قد غاب عن كل شيء سره ====  فسها عما سوى الله فالتعظيم لله

5 ـ إن شُرود الفكْر في الصلاة أمر جائز وواقع، ويَنْبغي أن يُحاول المصلِّي التخلُّص من الاسترسال فيه بقدر ما يستطيع، وقد صحَّ في الحديث الترغيب في ذلك، ففي حديث عمرو بن عبْسة ـ بعْد ذِكر فضْل الوضوء في مغفرة الذنوب ـ جاء قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” فإنَّ هو قام وصلى فحمد الله تعالى وأثنى عليه ومَجَّدَهُ بالذي هُوَ لَهُ أهل وفرَّغ قلبه لله تعالى إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه ” رواه مسلم . وجاء أيضًا ” من صلَّى ركعتين لم يحدِّثْ نفسه فيهما غُفر له ما تقدَّم من ذنبه ” رواه البخاري ومسلم .

وقد علَّق النَّووي عليه بأن المُراد عدم تحديث نفسه بشيء من أمُور الدنيا وما لا يتَعلَّق بالصَّلاة، ولو عَرَض له حديث فأعرض عنه بمجرد عروضه عُفي عن ذلك، وحَصَلت له هذه الفضيلة إن شاء الله تعالى؛ لأنَّ هذا ليس من فعله، وقد عُفي لهذه الأمة عن الخَواطر التي تَعرِض ولا تَسْتقر، ثم يَنقِل النووي عن المازِرِي والقاضي عِياض : أنَّ المُراد بحديث النَّفس الحديث المجتلَب والمكتَسب، أما ما يَقع في الخَواطر غالبًا فليس هو المراد ” شرح النووي لصحيح مسلم ج1 ص 108، 109 ” .

ومما جاء في عدم خطورة التفكير الدنيوي في الصلاة ما ذكره ابن القيم في كتابه ” زاد المعاد ج1 ص 64 ” أن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : إني لأجهِّز جيْشيَ وأنا في الصلاة، ووضَّح ذلك بقوله : فهذا جمع بين الجهاد والصلاة، ونظيره التفكير في معاني القرآن الكريم واستِخْراج كُنوز العلم منه في الصلاة، فهو جمع بين الصلاة والعلم .

6 ـ وانشغال الفكر أثناء الصلاة بأمور الدنيا ـ وإن كان مذمومًا ـ لا يُبْطل الصلاة؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سَهَا في الصلاة وخرَج منها دخل فيها وأكملها بعد أن تذكَّر، ولم يَسْتأْنفْها من الأوَّل، وبيَّن أن مَن حدَث له ذلك يُتمُّ الصَّلاة ويسجد للسَّهو، فقد جاء في الحديث ” وإذا شك أحدُكم في صلاته فَلْيَتَحَرَّ الصواب فَلْيُتِمَّ عليْه، ثم لِيسلِّم ثم ليسجد سجدتين ” رواه الجماعة إلا الترمذي ” نيل الأوطار ج 1 ص 125 ” .

كما أن شرائع الإسلام مبْنِيَّة على الظاهر، أما الباطن فموكول إلى الله، يُثيب أو يُعاقب عليه، والله سبحانه لم يأمر المنافقين بإعادة الصلاة، مع أنها كما قال الله في وصفهم ( إنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وهو خَادِعُهُم وَإذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلَا ) ( النساء : 142 )، وإذا صحَّت صُورة الصلاة من المنَافِقين فإنَّ صِحَّتَها من المُؤْمِنين السَّاهِينَ أَوْلى، نعم، الثَّواب متروكٌ أمْره إلى الله، ولكن لا نُلزَم نحن بإعادتها، فمَن أراد أن يعيدها لتحصيل الثواب فشأنه ذلك، وأرجو ألا يَسهو في المرة الثانية، ثم يستولي عليه الوَسْوَاس فيعيدها مرات . وهذا هو المُختار للفتوى، لأن إبطال الصلاة بالسهو فيه عسر وحرج، والإسلام دين اليسر، وإن كان الإمام الغزالي وغيره من رجال التصوف يَحْكُمون ببطلانها، موجِّهين رأيَهم بأن السهو ينافى الخشوع، والخشوع روح الصلاة فكيف يعْتَدُّ بصلاة لا روح فيها ؟

وبأن الصلاة تُعاد بترْك رُكن فكَيف بترْك اللُّب والروح ؟ وبأن الله قال ( فويْلٌ للمُصلِّين الذين هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُون)، والسَّهو ليس عن الوقت بل عمَّا يَلزمُها منه ومن الخشوع، وبأن حديث الترمذي ينصُّ على أن الله لا يستجيب دعاءً من قلْبٍ غافل، والصلاة رُوحُها الدُّعاء .

وهذا الرأي مبْنيٌّ على أن الخشوع في كلِّ صلاةٍ ركْنٌ مِن أرْكَانِها والسَّهو ينافيه فتبطل به . وقد أجاب أصحاب الرأي الأول بأن الخشوع المفْروض الذي يستطيعه كلُّ إنسان هو عند الدخول في الصلاة بتوجُّه القلْب إلى فعلها، وأما ما ذُكِر فهو لكمال الثواب ” شرح الزُّبيدي على إحياء علوم الدين للغزالي ج 3 ص 22، 112، 116 ” .

7 ـ والذي يُساعد المصلِّي على عدْم السَّهو والغفْلة هو استشْعاره عظمة الله سبحانه والخوف منه إن سها عنه، والرجاء في فضْله بالإقْبال عليه، والحياء منه أن ينْشغل عنه .

ودَفْع الخَوَاطر يكون بدَفْع أسبابها ومصادرها، وهذه قد تكون عارضة خارجية كالأصوات الشديدة من الإذاعة والسيارات في الشوارع والأسواق وما إليها، والعلاج هو البعد عن مصادرها . وكالمناظر الخلَّابة كالفِرَاش المنْقوش والصور المعلَّقة أمام المصلِّي، والعلاج يكون بالتنحِّي عنها، ويُساعد عليه تركيز النَّظر إلى موضع السجود، والقرْب من الجِدار حتى لا يكون أمامه ما يَشْغَلُه، وعدم الالتفات وما إلى ذلك مما يَصْرِف عن التركيز . جاء في صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : سألتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الالتفات في الصَّلاة فَقَال ” هو اخْتِلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ” ” زاد المعاد ج 1 ص 63 ” .

والالتفات المنْهي عنه هو ما كان لأمور الدنيا، أما ما كان للمصلحة الدينية فلا نهْيَ عنه، فقد ورد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما بَعَث فارسًا طَلِيعَة ـ يأتي بأخبار العدو ـ قام إلى الصلاة فجعل يلتفت فيها إلى الشعب الذي يَجيء منه الطَّليعة . وعلَّق عليه ابن القيم بقوله : فهذا لون، والتفات الغافلين اللاهين وأفكارهم لون آخر ” المرجع السابق ” .

وثبَتَ أنّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَبِس خَمِيصَة أتَاه بها أبو جهم وعليها عَلَمٌ، وصلَّى بها ثم نزعها بعد صلاته وقال ” اذْهبوا بها إلى أبي جهم فإنها ألْهتني آنفا عن صلاتي، وأْتُوني بأَنْبِجَانِيَّة أبي جهم ” رواه البخاري ومسلم .

ولم يثبُت أنه أعاد الصلاة التي ألهته فيها الخميصة . والخميصة: كِساء مربَّع من صوف . والأنبجانيَّة كساء غليظ، وقيل: إذا كان للكساء علمٌ فهو خميصة، فإن لم يكن فهو أنْبِجانيَّة، والعلم والأعلام علامات وأشياء تلفت النظر . يقول النووي تعليقًا على هذا الحديث: فيه أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر في شاغل ونحوه مما ليس متعلقًا بالصلاة، وهذا بإجماع الفقهاء ” النووي على صحيح مسلم ج 5 ص 44 ” .

وقد تكون أسباب الخواطر داخل الإنسان نفسه ليست عارضة من الخارج، وأكثرها رواسب أو ذُيول لمؤثِّرات سبقت الدخول في الصلاة . والعلاج يكون بطرح الهموم والشواغل قبل القيام إلى الصلاة، وذلك يحتاج إلى فترة مناسبة، وقد يكون الاشتغال بالوُضوء لونًا من التمرُّس على نِسيان هذه الشواغل، أو التقليل من أثرها . روى أبو داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعثمان بن طلحة ” إني نسيت أن أقول لك : تُخَمِّر القِدْر الذي في البيت ” ذلك أنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يَشْغَلُ الناس عن صلاتهم .

وهناك حوادث كثيرة من هذا النوع تدل على أهمية قطع الشواغل عن المصلِّي قبل أن يدخل في الصلاة ” إحياء علوم الدين للغزالي ج1 ص 147، 148، والترغيب والترهيب للمنذري ج 1 ص 143 ” .

ومع العمل على طرْح هذه الهموم قبل الصلاة ينبغي أن يَحِل محلَّها تفكيرٌ آخر، وهو يكون بِفَهْم ما يقوله المصلى ويفعله، وبقدر ما يدرك من ذلك يكون خشوعه وثوابه وإحساسه بحلاوة الصلاة وخفتها وعدم الشعور بثقلها، يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” ما مِنْ مسلم يتوضأ فيُسبغ الوضوء ثم يقوم في صلاته فيَعلم ما يقول إلا انفتل وهو كيومَ ولدته أمه ” رواه مسلم وغيره، ومعنى انفتل: خرج من الصلاة، ويقول ” إن الرجل لينصرف وما كُتب له إلا عُشر صلاته تُسْعُها ثُمنها سُبْعها سدُسُها خُمسُها ربعُها ثلُثُها نصفُها ” رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه بنحوه، وفي حديث مرسل ـ أي سقط منه الصحابي ـ ” لا يَقبل الله من عبد عملاً حتى يَشهد قلبه مع بدنه ” وجاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قوله ” ليس للرجل من صلاته إلا ما عَقَل منها “، وهو ليس بحديث مرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ” الإحياء ج1 ص 143، ومدارج السالكين ج1 ص 257 ” .

8 ـ يُعلم مما سبق أنَّ الخشوع في الصلاة يَحتاج إلى مجاهدة قوية، ومهما يكن من نتائجها فإن للمصلِّي نصيبًا وإن لم يبْلغ الغاية، والله لا يكلِّف نفسًا إلا وُسْعها، ولا يَمُرَّن بخيال أحد أن الإخفاق في هذه المجاهدة يُوحِي باليأْس أو يُوعِز بالقُعود عن الصلاة ما دامت لا تُرْجى منها فائدة بتحقيق الخشوع الذي يُفْلح به المُؤمنون، فإن الصلاة مع المجاهدة ـ ولو قلَّ شأنها ـ فيها فائدتان: أولاهما: الثواب على ما جرى على لسان المصلِّي من ذِكْر وقراءة ـ وعلى حبْس نفسه في الصلاة عن عمل الدنيا من أجل الآخرة، وثانيتهما: رجاءَ النجاح في المجاهدة، فإنَّ كثْرة المحاولة قد تؤدي إلى الخشوع المطلوب أو تُقرِّب منه، كما يُقال : الحِلْم بالتَّحلُّم، والعلم بالتعلم، وأول الغيث قطْر ثم ينْهمر، والميْسور لا يَسْقُط بالمَعْسور .

ويُعْجِبُني في هذا المقام ما جاء في حِكَمِ ابن عطاء الله السكندري ” 707 هـ “، وشرح ابن عجيبة : لا تَتْرك الذِّكْر لعدم حضور قلبك مع الله فيه؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره أشدُّ من غفْلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذِكْر مع وُجود غفْلة إلى ذِكْر مع وجود يَقَظَة، ومن ذِكْر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غفلة عما سوى المذْكور، وما ذلك على الله بعزيز.