يقول الشيخ الإمام ابن تيمية – رحمه الله ـ
هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي كأبي المعالي وغيره , وهو خطأ , بل الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد . ومنهم من يقول إنها وافية بجميع ذلك وإنما أنكر ذلك من أنكره ; لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد , وذلك أن الله بعث محمدا ﷺ بجوامع الكلم , فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى , فبهذا لوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد .
مثال ذلك : أن الله حرم الخمر , فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة , ثم من هؤلاء من لم يحرم إلا ذلك , أو حرم معه بعض الأنبذة المسكرة , كما يقول ذلك من يقوله من فقهاء الكوفة , فإن أبا حنيفة يحرم عصير العنب المشتد الزبد , وهذا الخمر عنده , ويحرم المطبوخ منه ما لم يذهب ثلثاه , فإذا ذهب ثلثاه لم يحرمه , ويحرم النيء من نبيذ التمر , فإن طبخ أدنى طبخ حل عنده , وهذه المسكرات الثلاثة ليست خمرا عنده مع أنها حرام , وما سوى ذلك من الأنبذة فإنما يحرم منه ما يسكر .
وأما محمد بن الحسن فوافق الجمهور في تحريم كل مسكر قليله وكثيره , وبه أفتى المحققون من أصحاب أبي حنيفة , وهو اختيار أبي الليث السمرقندي . ومن العلماء من حرم كل مسكر بطريق القياس إما في الاسم وإما في الحكم , وهذه الطريقة سلكها طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد , يظنون أن تحريم كل مسكر إنما كان بالقياس في الأسماء أو القياس في الحكم . والصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن الخمر المذكورة في القرآن تناولت كل مسكر , فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة , لا بالقياس وحده , وإن كان القياس دليلا آخر يوافق النص , وثبت أيضا نصوص صحيحة عن النبي ﷺ بتحريم كل مسكر , ففي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال : { كل مسكر خمر وكل مسكر حرام } , وفي الصحيحين , عن عائشة رضي الله عنها , عن النبي ﷺ أنه قال : { كل شراب أسكر فهو حرام } .
وفي الصحيحين , عن أبي موسى , عن النبي ﷺ أنه سئل , فقيل له : عندنا شراب من العسل يقال له البتع , وشراب من الذرة يقال له المزر ؟ قال - وكان قد أوتي جوامع الكلم - فقال : { كل مسكر حرام } إلى أحاديث أخر يطول وصفها .
وعلى هذا فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة , كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص , وكان هذا النص متناولا لشرب الأنواع المسكرة من أي مادة كانت من الحبوب , أو الثمار أو من لبن الخيل أو من غير ذلك . ومن ظن أن النص إنما يتناول خمر العنب قال إنه لم يبين حكم هذه المسكرات التي هي في الأرض أكثر من خمر العنب , بل كان ذلك ثابتا بالقياس , وهؤلاء غلطوا في فهم النص .
ومما يبين ذلك أنه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة من خمر العنب شيء , فإن المدينة لم يكن فيها شجر العنب , وإنما كان عندهم النخل , فكان خمرهم من التمر , ولما حرمت الخمر أراقوا تلك الأشربة التي كانت من التمر , وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم .
فعلم أن لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصا بعصير العنب , وسواء كان ذلك في لغتهم فتناول , أو كانوا عرفوا التعميم بلغة الرسول ﷺ فإنه المبين عن الله مراده , فإن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف , يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة , وتارة فيما هو أخص .
ومن هذا الباب لفظ الربا , فإنه يتناول كل ما نهي عنه من ربا النسيئة وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك , فالنص متناول لهذا كله , لكن يحتاج في معرفة دخول الأنواع والأعيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك , وهذا الذي يسمى تحقيق المناط .
ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة , سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة , وهذا هو المراد من قول من قال : النصوص تتناول أحكام أفعال المكلفين , ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض , كقوله : { تلك عشرة كاملة } { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } , فالكتاب هو النص , والميزان هو العدل , والقياس الصحيح من باب العدل , فإنه تسوية بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين , ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص , فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد , ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا , كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح .
ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة , فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم , كما ذكرناه من الأمثلة .