آيات القرآن الكريم تُولِي الإخلاص والتحذير من الشرك والرياء عناية فائقة لدرجة تخيف الإنسان لمراجعة نفسه قبل العمل وأثناءه وبعده، وحسبنا أمر الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام- وهو من هو- : “إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ* أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ” (الزمر: 2-3). وقوله تعالى: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء”(البينة:5).

ونريد أولا أن نبين شيئا مهما، وهو أنه لابد أن يكون هناك جزء ظاهر من الدين، وهو جزء الشعائر الكبرى من صلاة وحج وغير ذلك؛ لأن هذه الشعائر هي التي تقرر الإسلام في المجتمع وتكون بمثابة علامات هادية على قيام الإسلام ووجود المسلمين.

وهذا لا يتعارض مع الإخلاص بحال من الأحوال؛ إذ كيف يخفي الإنسان صلاة الجماعة، وكيف يخفي الحج؟ فهذا مما لا يسع المسلم إخفاؤه، فإذا تقررت هذه الحقيقة في النفس استطاع المسلم أن يدفع وساوس الرياء ويغلق مداخله.

ومع ذلك فإن العبد لابد أن تكون بينه وبين الله أسرار- فيما سوى الجزء واجب الظهور- لا يطلع عليها أحد من الخلق يتقرب بها إلى الله، ويسأله بها إن وقع فيما لا يرضى كما نعلم حادثة الثلاثة الذين أَغلَقت عليهم صخرةٌ بابَ الغار، ولا بأس للإنسان أن يُظهر عملا يمكن أداؤه في السر تشجيعا للناس وحثا عليه، وتقديما للقدوة؛ شريطة أن يأمن على نفسه خطر الرياء وشره.

وما دام المسلم يشعر بخطر الرياء ويخشى عواقبه عليه دينا ودنيا، فإن ذلك- إن شاء الله- عين الإخلاص، الذي أسأل الله أن يعيننا عليه بالعوامل التالية :

أولا : أن تتأمل في آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية الصحيحة التي تأمر بالإخلاص وتحذر من الرياء؛ لتقف على مكانة الإخلاص وخطر الرياء، ولا بأس أن يبدأ المسلم بباب الإخلاص من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي؛ وذلك أن الإنسان إذا وقف على حقيقة الشيء وخطره كان أدعى وأقوى في مقاومته والبعد عنه. وقد قال أبو حامد الغزالي- رحمه الله- : “كل الناس هلكى إلا العالمين، وكل العالمين هلكى إلا العاملين، وكل العاملين هلكى إلا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم”.

ثانيا: يليق بالمسلم أن ينبه من يمدحه تنبيها لطيفا إلى خطر ذلك على النفس والعمل، ويذكر له حديث النبي- عليه السلام- الذي يأمر فيه يحثو التراب في وجوه المداحين، ويحاول معه أن يستبدل هذا المدح بالدعاء له أن يتقبل الله منه، والكلمة الطيبة صدقة.

ثالثا: سوف يواجه بعض الناس لا يفتئون يثنون على الناس ويحمدونهم حتى بما لم يفعلوا، وهنا يجب استخدام أسلوبا يقدره الممدوح بما يتناسب مع الشخص والموقف.

رابعا: لا شك أن المسلم الممدوح على عمل ما ربما يصيبه رذاذ من الإعجاب بالنفس وقد يحمله على استحضار داعية الرياء، وهذا يوجب على الإنسان أن يتذكر- على الفور- أن هذا محض التوفيق الأعلى، لا نتيجة ذكاء خارق أو علم فياض أو ما إلى ذلك.

وهنا يحسن أن نفهم سياق سورة الضحى التي أمر الله فيه نبيه أن يحدث بنعمة ربه، فإذا تأملنا بدايات السورة وجدنا الله تعالى يعدد نعمه على نبيه: “أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى” (الضحى: 6-8) ؛ ثم يقول له: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى:11).

فكأن الله يريد- والله أعلم بمراده- أن يقول لنبيه : “يا محمد، حدِّث بنعمة ربك مستشعرا ما أنعمت به عليك”. فاستشعار هذا المعنى لن يبعدك عن ربك، بل سيجعلك دائما في رحابه وشكره على نعمه، بل سيضعك في دائرة استشعار التقصير الدائم إذا ما لاحظت بعينك النعم التي أنعم بها عليك.

خامسا: يحسن بالمسلم أن يعقد نواياه قبل الخوض في العمل، ويسأل نفسه هذا السؤال : لماذا؟ فإن كان للناس والسمعة واستجلاب أنظار الخلق للمدح والثناء وجب التوقف الفوري وعقد النية جيدا، وإن كان لله خالصا مجردا فبها ونعمت، وعلى المسلم أن يراقب نفسه أثناء العمل ويجدد نيته دائما حتى لا تشرد منه هنا أو هناك، ثم يدعو الله بعد العمل أن يتقبل منه، ويخشى أن يرد الله عمله عليه.

سادسا: ينظر قبل أن يرائي بعمله : مَنْ يرائي؟ هل هذا العبد يملك شيئا، هل سيعطيه ثمنا على عمله؟ أم أنه يبتغي الأجر ممن يملك أمره وأمر هذا الضعيف: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ ـ قال الله تبارك وتعالى: “أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه. رواه مسلم.

تصور ـ أيها المسلم ـ أن كل من حولك هباء، وأن المستحق الوحيد للإخلاص هو الله، فإذا كان الله خلق ولم يشاركه أحد في الخلق، فلِمَ نشرك معه غيره في العبادة؟ وبدلا من أن ترائي الخلق بالعمل، اجعل عملك لله وتحسس موضع نظره منك، فهو عين الإخلاص.

سابعا: عليك بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى أن يثبت قلبك على الإخلاص، وأن ينقي عملك من كل شائبة، وأن يقوي ظهرك على الأعباء، ويحسن أن يرتمي في رحابه تعالى، ويردد هذه الكلمات: “اللهم خذني إليك مني، وارزقني الفناء عني، ولا تجعلني مفتونا بنفسي محجوبا بحسي”.

أخيراً؛

نريد أن نحذر من أمر جلل، وهو: إياك أيها المسلم أن يتسرب إليك الشيطان بوساوسه، ويدور حولك بِحِيَلِه، ويوحي إليك أنك ترائي بعملك، وأنه يجب أن تتركه على الفور؛ لأن هذا يتعارض مع الإخلاص، ويبعدك عن الله ويقربك من النفاق؛ فهذا مدخل من مداخله المعروفة التي لا تخفى عليك، ولو تركنا أعمالنا ومناصبنا لهذا الوسواس لما تحقق للمسلمين النصر في الدنيا، ولما روى لنا التاريخ أئمة في الدنيا كانوا في أعمالهم ومناصبهم مؤيدين بتأييد الله وموفقين أيضا بتوفيقه.