اختلف العلماء حول مشروعية زيارة النساء للقبور، وذلك لوجود حديثين ظاهرهما التعارض:-
الأول: ( لعن الله زوارات القبور) والحديث في سنده مقال، ولكن الشيخ الألباني حسنه بمجموع طرقه.

والثاني: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)
فمن منع النساء من الزيارة مطلقا نظر للحديث الأول، ومن نظر إلى نسخ النهي عن الزيارة في الحديث الثاني أجاز الزيارة للنساء مطلقا.

والحق أن إعمال أحد الحديثين وإهمال الآخر أمر ضعيف مرجوح، والراجح إعمالهما معا على وجه يجمع بينهما طالما ثبتت صحتهما معا.

والذي رآه غير واحد من المحققين أن الجمع بين هذين الحديثين يؤدي إلى جواز زيارة المرأة للقبور بشرط عدم الإكثار منها حتى لا تقع فيما نهى عنه الحديث الأول.
ومما ينبغي التأكيد عليه أنه يجب على المرأة أثناء زيارتها للقبور أن تخرج محتشمة غير نائحة ولا نادبة، وأن تتأدب بآداب زيارة القبور.

قال الشيخ الألباني – رحمه الله-:
والنساء كالرجال في استحباب زيارة القبور لوجوه :
الأول :عموم قوله صلى الله عليه وسلم : (. . فزوروا القبور) فيدخل فيه النساء وبيانه : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن زيارة القبر في أول الأمر فإن مما لا شك فيه أن النهي كان شاملا للرجال والنساء معا فلما قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ) كان مفهوما أنه كان يعني الجنسين ضرورة أنه يخبرهم عما كان في أول الأمر من نهي الجنسين فإذا كان الأمر كذلك كان لزاما أن الخطاب في الجملة الثانية من الحديث وهو قوله : ( فزوروها ) إنما أراد به الجنسين أيضا .

ويؤيده أن الخطاب في بقية الأفعال المذكورة في روايته : ( ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا ) .
أقول : فالخطاب في جميع هذه الأفعال موجه إلى الجنسين قطعا كما هو الشأن في الخطاب الأول : ( كنت نهيتكم ) فإذا قيل بأن الخطاب في قوله : ( فزوروها ) خاص بالرجال اختل نظام الكلام وذهبت طلاوته الأمر الذي لا يليق إلصاقه بمن أوتي جوامع الكلم ومن هو أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم ويزيده تأييدا الوجوه الآتية :

الثاني : مشاركتهن الرجال في العلة التي من أجلها شرعت زيارة القبور : ( فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ) .

الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص لهن في زيارة القبور في حديثين حفظتهما لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :

( أولهما ):- عن عبد الله بن أبي مليكة : ( أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت : لها : يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت : من قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت لها : أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ؟ قالت : نعم : ثم أمرنا بزيارتها ) . وفي رواية عنها : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور ) .( والحديث صححه الشيخ الألباني).

(وثانيهما ): أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم ماذا تقول إذا أتت القبور، وذلك فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه ( قالت : قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال قولي : ( السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون).

ثم قال الشيخ الألباني :-
لكن لا يجوز لهن الإكثار من زيارة القبور والتردد عليها لأن ذلك قد يفضي بهن إلى مخالفة الشريعة من مثل الصياح والتبرج واتخاذ القبور مجالس للنزهة وتضييع الوقت في الكلام الفارغ كما هو مشاهد اليوم في بعض البلاد الإسلامية وهذا هو المراد – إن شاء الله – بالحديث المشهور :(لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وفي لفظ : لعن الله ) زوارات القبور ) .( والحديث حسنه الشيخ الأباني ).

قال القرطبي : ( اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك وقد يقال : إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الأذن لهن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء ) .

و قال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : ( وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر ) . انتهى كلام الألباني.

على أن هناك حديثا آخر استند إليه من حرم زيارة النساء للقبور يحسن بنا أن أذكره تتميما للفائدة، ذلك الحديث الذي رواه أبو داود وغيره (قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ميتا فلما فرغنا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه فلما حاذى بابه وقف فإذا نحن بامرأة مقبلة قال أظنه عرفها فلما ذهبت إذا هي فاطمة عليها السلام فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجك يا فاطمة من بيتك فقالت أتيت يا رسول الله أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلك بلغت معهم الكدى قالت معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر قال لو بلغت معهم الكدى فذكر تشديدا في ذلك فسألت ربيعة عن الكدى فقال: القبور فيما أحسب) وهذا الحديث لو صح لكان دليلا قويا على تحريم الزيارة للنساء، ولكن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة. ضعفه الإمام النووي، والشيخ الألباني.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري :-

واختلف في النساء فقيل: دخلن في عموم الإذن وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة. ويؤيد الجواز حديث أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: “اتقي الله واصبري الخ”. فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر وتقريره حجة.

وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة رضي الله عنها فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، فقيل لها: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالت نعم كان نهى ثم أمر بزيارتها. انتهى كلام الحافظ بتصرف.

ولظاهر تعارض الأحاديث اختلفت الرواية عن الإمام أحمد بن حنبل، فروي عنه جواز زيارتهن بلا كراهة، وروي عنه كراهة الزيارة، فكأنه قال بمقتضى الحديثين معا.