جاء في فتاوى ابن تيمية بتصرف:
مذهب الجمهور من العلماء أنه لا يجوز التزويج بها، وهو الصواب المقطوع به؛ حتى تنازع الجمهور؛ هل يقتل من فعل ذلك؟ على قولين .
والمنقول عن أحمد؛ أنه يقتل من فعل ذلك فقد يقال؛ هذا إذا لم يكن متأولاً.
وأما ”المتأول” فلا يقتل؛ وإن كان مخطئًا . وقد يقال ؛ هذا مطلقًا ، كما قاله الجمهور ؛ إنه يجلد من شرب النبيذ المختلف فيه متأولاً؛ وإن كان مع ذلك لا يفسق عند الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وفسقه مالك وأحمد في الرواية الأخرى .
والصحيح؛ أن المتأول المعذور لا يفسق؛ بل ولا يأثم . وأحمد لم يبلغه أن في هذه المسألة خلافًا ؛ فإن الخلاف فيها إنما ظهر في زمنه، لم يظهر في زمن السلف؛ فلهذا لم يعرفه.
والذين سوغوا ”نكاح البنت من الزنى” حجتهم في ذلك أن قالوا؛ ليست هذه بنتًا في الشرع؛ بدليل أنهما لا يتوارثان؛ ولا يجب نفقتها؛ ولا يلي نكاحها، ولا تعتق عليه بالملك، ونحو ذلك من أحكام النسب ، وإذا لم تكن بنتًا في الشرع لم تدخل في آية التحريم، فتبقى داخلة في قوله؛ (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ) سورة النساء: 24.
وأما حجة الجمهور فهو أن يقال؛ قول الله تعالى؛ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ) سورة النساء : 23 الآية هو متناول لكل من شمله هذا اللفظ ، سواء كان حقيقة أو مجازًا ؛ وسواء ثبت في حقه التوارث وغيره من الأحكام؛ أم لم يثبت إلا التحريم خاصة، ليس العموم في آية التحريم كالعموم في آية الفرائض ونحوها ؛ كقوله تعالى؛(يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) سورة النساء : 11.
وبيان ذلك من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن آية التحريم تتناول البنت وبنت الابن وبنت البنت؛ كما يتناول لفظ ”العمة” عمة الأب ؛ والأم ، والجد . وكذلك بنت الأخت، وبنت ابن الأخت . وبنت بنت الأخت . ومثل هذا العموم لا يثبت ، لا في آية الفرائض ، ولا نحوها من الآيات ، والنصوص التي علق فيها الأحكام بالأنساب.
الثاني : إن تحريم النكاح يثبت بمجرد الرضاعة ، كما قال النبي ﷺ ؛ { يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة } ” وفي لفظ {ما يحرم من النسب} ” وهذا حديث متفق على صحته ، وعمل الأئمة به ؛ فقد حرم الله على المرأة أن تتزوج بطفل غذته من لبنها ، أو أن تنكح أولاده ، وحرم على أمهاتها وعماتها وخالتها ؛ بل حرم على الطفلة المرتضعة من امرأة أن تتزوج بالفحل صاحب اللبن ، وهو الذي وطئ المرأة حتى در اللبن بوطئه . فإذا كان يحرم على الرجل أن ينكح بنته من الرضاع ، ولا يثبت في حقها شيء من أحكام النسب - سوى التحريم وما يتبعها من الحرمة - فكيف يباح له نكاح بنت خلقت من مائه ؟ ! وأين المخلوقة من مائه من المتغذية بلبن در بوطئه ؟ ! فهذا يبين التحريم من جهة عموم الخطاب ، ومن جهة التنبيه والفحوى ، وقياس الأولى .
الثالث : إن الله تعالى قال؛ (وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ) سورة النساء : 23 قال العلماء ؛ احتراز عن ابنه الذي تبناه ، كما قال ؛ (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) سورة الأحزاب : 37 ومعلوم أنهم في الجاهلية كانوا يستلحقون ولد الزنى أعظم مما يستلحقون ولد المتبني ، فإذا كان الله تعالى قيد ذلك بقوله؛ ( من أصلابكم) علم أن لفظ ” البنات ” ونحوها يشمل كل من كان في لغتهم داخلاً في الاسم .
وأما قول القائل؛ إنه لا يثبت في حقها الميراث ، ونحوه . فجوابه أن النسب تتبعض أحكامه ، فقد ثبت بعض أحكام النسب دون بعض ، كما وافق أكثر المنازعين في ولد الملاعنة على أنه يحرم على الملاعن ولا يرثه . انتهى
والخلاصة: أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل من ابنته من الزنى، والقول المخالف فيه ضعف ظاهر، فرأي الجمهور أقوى حجة، وأقرب إلى روح الشريعة.